المهندس ساسين القصيفي
صَدَرَ مؤخَّرًا كتابٌ بِعُنوانِ:” هل انتهى القرنُ الأميركيُّ”، من تأليفِ الأكاديميِّ الأميركيِّ جوزيف نَايْ. ويُعتَبرُ هذا الأخيرُ، أحَدَ أبرَزِ عُلَماءِ العلاقاتِ الدوليَّةِ في العالم. وقد شَغَلَ سابقًا، مركزَ عميدِ كُلِيَّةِ جون كينيدي الحُكوميَّةِ، في جامعة هارفارد، وهي الكُلِيَّةُ المُتخصِّصَةُ في رسْمِ السِّياساتِ التطبيقيَّةِ، الطويلةِ الأمدِ، للدَّولةِ الأميركيَّة. كما وكان قد عَمِلَ، وقْتَ ولايةِ الرئيس كلينتون، مُساعدًا لِوزير الدِّفاعِ الأميركيِّ، لِشُؤونِ الأمنِ العالميِّ. ومن أهمِّ مسؤوليَّاتِ هذه الوظيفةِ، هي تحليلُ مَلفَّاتِ الأمن العالميَّةِ، لِصِيَاغَتِها بنظرةٍ جامِعَةٍ ومُتَرابطةٍ، في خدمةِ مَصالِحِ الأمَّةِ الأميركيَّةِ! ( انا شخصيًّا أوَّلُ مرَّةٍ اسمَعُ بهذا المَنصِب).
في نَظرةٍ تَاريخيَّةٍ إلى ألمَعِيَّتِهِ الفريدةِ، نَرَى أنَّ هذا الأكاديميَّ، هُوَ مَن أدخلَ الى القاموسِ السَّياسيِّ العالميِّ، في تسعينيَّاتِ القرنِ الماضي، مُصطلَحاتٍ مِثلَ، القوَّةِ النَّاعمةِ والقوَّة الذكيَّةِ…وكيفيَّةِ تَجيِّيرهُما لِصَالِحِ الديبلوماسيَّةِ الأميركيَّة.
وبالعودةِ الى مَضمونِ الكتاب، يَرَى جوزيف نَايْ، أنَّ “القرنَ الأميريكيَّ” لم ينتهِ بعدُ، ولكنَّهُ يشهَدُ تَحوُّلًا في طبيعةِ القوَّةِ العالميَّة. ويُوضِحُ أنَّ الولاياتِ المتَّحدةَ، لا تزالُ تحتفظُ بمزايا استراتجيَّةٍ، تَجعلُها اللاعبَ الرئيسَ، على السَّاحةِ الدوليَّة.
يَكشِفُ نايْ، أنَّ الولاياتِ المُتَّحدةَ، تمتلكُ صِفاتٍ فريدةٍ، تصنَعُ تَفَوُّقَها في العقودِ القادمة. وهذه أهمُّها: الاقتصادُ الديناميكيُّ والمُتَنوِّعُ، والذي ما انفكَّ يُمثِّلُ الحَجْمَ الأكبَرَ في العالم، وعُمدتُهُ البحثُ العِلميُّ والمبادرةُ الفرديَّة، إضافةً الى قوَّةِ الثقةِ بِعُمْلَتِها، والتي ما فَتِئت تُعتَمَدُ مَلاذًا آمنًا للمصارف المركزيَّة، ومِقياسًا مَوْثُوقًا للتحويلاتِ النقديَّةِ في العالم. كما وإنَّ قوَّتَها العسكريَّةَ، تُقدَّرُ بالأضخَم في التَّاريخِ. وتتميَّزُ أميركا بقوَّةٍ ناعمةٍ، يَفتقُدُها الكثيرُ من الدُّوَلِ البارزةِ. فَجَامِعاتُها هي الأرقَى، كَمَراكز بحثٍ وإنتاجٍ فِكريٍّ. وشَرِكاتُها التكنولوجيَّةُ العملاقَةُ، هي الأضخمُ، كقيمةٍ سُوقيَّةٍ وَرِيادَةِ ابتكارٍ. فيما تبقى طريقَةُ العيشِ الأميركيِّ، حُلُمَ الكثيرين، في اندفاعاتِهِم، نحو أرضِ الأحلامِ. بينما نظامُها الديمقراطيُّ – الأعرَق في العَالَمْ – يَظَلُّ، مَرِنًا في استقامتِهِ، وساميًا في مُثُلِه القِيَميَّةِ، وما بَرِحَ يَدفَعُ بأميركا قٌدُمًا نحوَ تثبيتِ ونَشرِ الديمقراطيَّةِ في العالم.
في المُقابلِ،
يسرُدُ نايْ في كتابِهِ، التَّحدِّياتِ التي تعترضُ التَّقدُّمَ الأميركيَّ. فيُبرِزُ صعودَ الصِّينِ كَمُنافسٍ عالميٍّ. ولكنَّه يَعرِضُ مكامِنَ الخَلَلِ، التي تُواجِهُ اقتصادَها، من فَسادٍ إداريٍّ ونظامٍ سياسيٍّ شيوعيٍّ شُموليٍّ مُتَخلِّفٍ، يعودُ الى أيْدُيولوجِيَّةٍ بائسةٍ، معَ شيْخُوخةٍ سُكَّانِيَّةٍ مُطَّرِدَةٍ… عِلمًا أنَّ اقتصادَها يأتي الثاني عالميًّا، من حيث الحجمِ، ويُشكلُّ ما نِسبَتُةُ حوالَيْ 70% من الإقتصادِ الأميركيِّ، مع تَوقُّعاتٍ مُستقبليَّةٍ غيرَ مُشجِّعَةٍ. زِدْ على ذلك، فهو يكشِفُ، أنَّ الصِّينَ، ترتكزُ في نُمُوِّها- إضافةً الى بَرَاءاتِ الاختراعِ الغربيَّةِ، والتي تَستَعملُها بطريقَةٍ غير شرعيَّةٍ في صناعاتها – على استقرارِ النِّظامِ الدَّوليِّ، الذي أرسَتْهُ الولاياتُ المُتَّحدة مع المجموعةِ الغربيَّةِ، وهمُ المُتَحَكِّمونَ بعناصرِهِ. وهذا ما يَحِدُّ من قُدُراتِها الذاتيَّةِ، في القيادة او التَّنافُسِ.
وفي خلاصَتِهِ، يوحي بأنَّ المِثالَ الصِّينيِّ، لم يَعُد قُدوَةً. لقد انكشَفَ وبَهُتَ!
وفي الخاتمَةِ،
ليسَ بالتَّمنيَّاتِ والأدعيَة، تحيا الأمَمُ، بل بكلِّ فِكرَةٍ رائدةٍ، تُطوِّرُ الفردَ، وتوسِّعُ مَدارِكَ الإنسانِ!
أمَّا ممارسةُ هِوَايةِ هِجَاءِ أميركا، فلا يُلغِي أنَّها، الاقتصادُ الأوَّلُ، وأميرَةُ البَرِّ، وسيِّدَةُ البِحارِ، وفاتحةُ الأكوانِ. إضافةً الى كونِهاَ ناشرَتِ المِظلّاتِ ومُقدِّمةَ الضَمَاناتِ ومُوَزِّعةِ الضَمَّاداتِ.
وعلى هذا المبدأ، فالقرنُ الأمريكيُّ مُستمرٌّ، يَتَألَّقُ ثقافيًّا وأنْمُوذَجًا، ويَتَوسَّعُ اقتصاديًّا وتأثيرًا، ويَتَجَدَّدُ عسكريًّا وسَطوةً. وباتت أميركا قَدَرًا، لا قُدرةَ للعَالَمِ على تفاديه، في العقودِ القادمة.
ورُبَّما شخصيًّاتٌ نابغةٌ، مثلَ إيْلون ماسك، سَتُغَيِّرُ حدودَ الافاقٍ، وستُبَدِّلُ مُنتَهياتِ هذا الزمنِ، وسَتُحلِّقُ بِطمُوحاتِ هذا الجيلِ…الى ما بعدِ الزمكان!
وما على أمريكا، إلَّا إدارَةَ هذه المُبْتَغياتِ، بِفَعالِيَّةٍ مَوْضُوعيَّةٍ، للاستمرارِ في توجيهِ المجتمعاتِ نحوَ السَّلامِ، والشُّعوبِ نحو التَّسامُحِ والتَّعايُشِ والإزدهار…