سقوطُ النظامُ السُّوريُّ

المهندس ساسين القصيفي

في القرنَيْنِ الثَّامِنِ والتَّاسِعِ عَشَر، حَرِصَ الغربُ، على عَدَمِ اسقاطِ الخِلافَةِ العثمانيَّةِ، وأبقى عليها – كالرجُلِ المَريضِ – لِتَخدُم مصالحَه بِوَجْهِ الأطمَاعِ التوسُّعيَّة لِرُوسيا القيصريَّة.
وهذِه كانَت حالُ سوريا، بعد أحداثِ الرَّبيعِ العَرَبيّ. إذ كانت واضحةً، الرَّغبَةُ الغربيَّةُ، بالمُحافظَةِ على النِّظامِ الحاكِمِ، بوجَهِ الجماعات الأصوليَّة التكفيريَّةِ. وقد تجلَّى ذلك، من خلال السَّماحِ لإيران بنَشرِ نُفوذِها في الإقليم. إذ فيما كانت الميلشياتُ التَّابعةُ لإيران، بقيادَةِ قائدِ الحرسِ الثوريِّ الإيراني، قاسم سليماني، تقاتلُ الدَّواعشَ على الأرضِ في العراقِ وسوريا، كانت الطائراتُ الأميركيَّةُ، وطائراتُ السُّوخوي الروسيَّةِ، تدكُّ الحُصونَ من الجَّوِّ، في المُوصِلِ وحَلَب وحَمَاه وتَدْمُر…

وهكذا، اسْتّتَبَّ الوضعُ في الإقليم، في السَّنَواتِ العَشْرِ الماضية، على مضَضِ هذه المَوَازينِ الواهنةِ. دولٌ مُشَلَّعَةٌ. حكوماتٌ ضعيفةٌ. فسادٌ مُستَشْرٍ. ميليشياتٌ نافذةٌ. سَطوَةٌ إيرانيَّةٌ طاغيَةٌ. حضورٌ روسيٌّ فاعِلٌ. دورٌ تركيٌّ ناشطٌ. غاراتٌ اسرائيليَّةٌ مُحدَّدةٌ. تَغَافُلٌ أميركيٌّ مَدروسٌ. وقد حَلَا للبعضِ، بإطلاقِ تَسميَةِ: مِحوَرُ المقاوَمَةِ، على هذه الدُّوَلِ – السَّاحاتِ.
وحَدَثَ أنْ حَصَلَت، عمليَّةُ طَوَفانِ الأقصى انطلاقًا من غزَّة، فَتَبدَّلت معها كلَّ المُعادلاتِ، وانقَلَبَت معها كلَّ التَّوازُناتِ في الإقليم، وبدا وكأنَّ الزَمَنَ المُعطى لإيران، لإدارةِ ” هذا السَّلامَ الهشَّ، قد انقضى، أو سُحِبَ منها التفويضُ، بسبب ” سوءِ الأمانةِ “.
فَقُضيَ على حَرَكةِ حَمَاسٍ في غزَّة.
وحزبُ اللهِ في لبنان، تَلَقَّى هجماتٍ قاسمةً، واغتيلَ مُعظَمُ قادتِهِ، وَوَقَّعَ على اتِّفاقِ وقف إطلاق نارٍ غير مُشرِّفٍ.
وهكذا كان وضعُ الحوثيِّين في اليمنِ والميليشياتِ العراقية، والذين حُيِّدوا عن وِحدَة السَّاحاتِ.
أمَّا النِّظامُ السُّوريُّ، فانهارَ بسُرعةٍ أمامَ هجماتِ الجماعات المُسلَّحَةِ المُتتالية، وفَرَّ الأسدُ الى الخارج، في عتمةِ الليل.
وكان توقيتُ هذه الحربِ في سوريا، قد تّزَامَنَ معَ بِدْءِ سَرَيَان وَقفِ إطلاقِ النَّارِ بين لبنان واسرائيل، حيث بدَت اللحظة مؤاتيةً، لتركيَّا، للدَّفْعِ بفصائلِها، الى العُمقِ السُّوريِّ، مُسقطةً نظامًا، دام حُكمُهُ بالحديدِ والنارِ، لأكثرَ من نصفِ قرن.

إنَّها أخطرُ مرحلةٍ تَمرُّ على الإقليمِ، منذ حوالَي القرن ،
وللأسف،
لقد أهدَرَ معظَمُ العربِ، الكثيرَ من ثَرَواتِهم وأوقاتِهم، في المُماحكاتِ الداخليَّةِ، وهَبَاءِ الحُروبِ العَبَثيَّة، والنزَاعَاتِ المُتدفِّقَةِ للوُقوفِ على أطلالِ الزَّمَنِ…فَفَشِلوا في الوُلُوجِ بِمُجتَمَعاتِهِم الى جَنَّةِ الحداثةِ الإنسانيَّة،
وهكذا، اصبحَتِ المُفاضَلاتُ، بين السَّيِّءِ والأسوأِ، في مُعظمِ أقطارِ الإقليمِ.
واستحالَ وضعُنا، إلى جماعاتٍ مُتناحرةٍ، تعيشُ على أرضٍ مُشتَرَكةٍ، عاجزةٍ عن بناء دولةٍ طبيعيَّةٍ – ولا أقول ديمقراطيَّة – فانبَرَتْ فئةٌ من هذه الجماعاتِ، تدَّعي امتلاكَ التِّرياقِ، في محتوى دفاتِرِها القديمَةِ…وما زالَ، كلُّ جيلٍ، يُقطِّرُ الدوَاءَ حسبَ فهمِهِ، فيما الدَّاءُ مُستَشرٍ، والمريضُ يُواصلُ نَزفَه، والأجسادُ تَئِنُّ، ولا حلولَ في الأفقِ…
مأساةُ سوريا،
هي مأزِقُ شعبٍ خائبٍ، ما انفكَّ ينشُدُ طريقَ خلاصٍ،
هي مُعضِلةُ أمَّةٍ قانِطَةٍ، ما برحَت تؤطِّرُ أفرادَها ومُجتَمَعَاتِها بأيدولوجيا بائسةٍ …
والحلولُ المُستدامةُ مفقودةٌ… وربَّما يَتَشَظَّى هذا الشَّرقُ المريضُ، الى أجزاءٍ، تفصلُ بينها خطوطُ الحقدِ وكراهيَّةُ التاريخِ…