من ال 2019 لل 2025: المودع والمصارف وتعاميم ثالثهما

الملف الإستراتيجي

إعداد د. بيار الخوري 

مقدمة: توصيف الأزمة المالية وسياق الانهيار المصرفي

يمثل الانهيار المالي الذي شهده لبنان منذ تشرين الأول 2019 حالة دراسية فريدة في تاريخ الأزمات النقدية والمصرفية العالمية، حيث لم يكن مجرد تعثر في السداد السيادي، بل تحول إلى أزمة شاملة أدت إلى احتجاز الودائع بالعملات الأجنبية وخلق نظام مالي موازٍ يعتمد على تقنين السحوبات وتعدد أسعار الصرف. إن ما تعرض له المودعون، لا سيما الفئة التي تمتلك حسابات بالدولار “المحلي” أو ما اصطلح على تسميته “اللولار”، لم يكن اقتطاعًا قانونِيًّا مباشرًا في البداية، بل كان عملية “هيركات” (Haircut) مُقنعة وتدريجية نُفذت من خلال آليات تنظيمية أصدرها مصرف لبنان.

تهدف هذه المحاكاة إلى تحليل حالة مودع لا يزال يحتفظ بمبلغ 100 ألف دولار غير مسيلة في حسابه، بعد أن استنفد كُلّ السقوف التي أتاحتها التعاميم السابقة، مع التركيز على مشروع القانون المعروض على الحكومة في كانون الأول 2025، والذي يقضي بتقسيط هذا المبلغ على أربع سنوات. إن حساب “الهيركات الفعلي” يتجاوز مجرد النظر إلى القيمة الإسمية للمبلغ المتبقي، بل يتطلب تحليلًا تكلفة الفرصة البديلة، تآكل القيمة الزمنية للنقود والفوارق المالية الناتجة عن السحوبات بالليرة اللبنانية بأسعار صرف غير واقعية مقارنة بمعدلات الفائدة العالمية.

التسلسل التنظيمي للسحوبات المقننة: من التذويب إلى الفريش
منذ بداية الأزمة، انتهج مصرف لبنان سياسة تهدف إلى تقليص حجم الالتزامات بالعملات الأجنبية في ميزانيات المصارف عبر تحويلها إلى سحوبات بالليرة اللبنانية بأسعار صرف تقل بكثير عن سعر السوق الموازية. هذه العملية، التي بدأت بالتعميم رقم 151، كانت الأداة الرئيسية لتنفيذ الهيركات غير المباشر.

مرحلة التعميم 151 وتعدد أسعار الصرف

سمح التعميم 151 للمودعين بسحب مبالغ محددة من حساباتهم الدولارية، ولكن بالليرة اللبنانية. تطورت أسعار الصرف المعتمدة في هذا التعميم بشكل إداري، حيث بدأت بسعر 3,900 ليرة للدولار، ثم رُفعت إلى 8,000 ليرة، وصولًا إلى 15,000 ليرة. في المقابل، كان سعر صرف الدولار في السوق الموازية يرتفع بوتيرة أسرع بكثير، حَيثُ وصل في نهاية العام 2025 إلى 89,600 ليرة للدولار (مع تسجيل اسعار صرف وصلت الى ١٤٠ الف ليرة للدولار خلال الازمة).
إن الفارق بين سعر السحب المعتمد وسعر السوق الفعلي يمثل خسارة فورية للمودع. فإذا سحب المودع 1,000 دولار على سعر 15,000 ليرة، فإنه يحصل فِعلِيًّا على قيمة شرائية تعادل أقل من 200 دولار بسعر السوق الحقيقي (89,600 ليرة)، مما يعني أن “الهيركات” في هذه العملية وحدها تجاوز 80%.

مرحلة الانتقال إلى السحب بالدولار “الفريش” (تعديلات التعاميم 158 و166)

مع تزايد الضغوط الدولية وتولي الحاكم بالإنابة وسيم منصوري، حدث تحول نحو توحيد أسعار الصرف ووقف السحوبات بالليرة التي تساهم في التضخم. التعميم رقم 158 كان البداية، حيث أتاح سحب 400 دولار شهرِيًّا نَقدًا و400 دولار أخرى بالليرة على سعر صرف “منصة صيرفة” آنذاك (12,000 ليرة)، قبل أن يتم تعديله ليصبح السحب بالدولار الفريش فقط.
بحلول كانون الأول 2025، ومع صدور التعديلات الأخيرة، أصبح المستفيدون من التعميم 158 قادرين على سحب ما يصل إلى 1,000 دولار شَهرِيًّا، والمستفيدون من التعميم 166 (الذين لم يستفيدوا من 158) يسحبون 500 دولار شهرِيًّا. ومع ذلك، تم فرض قيود تقنية مثل تخصيص جزء من السحب (200 دولار في التعميم 158 و100 دولار في التعميم 166) للاستخدام عبر بطاقات الدفع (POS) حصرًا، وهو ما يحد من سيولة هذه الأموال في بيئة تعتمد بشكل متزايد على الكاش.

تحليل الفوائد الضائعة وتكلفة الفرصة البديلة (2019-2025)

أحد العناصر الأكثر إغفالًا في حساب الهيركات اللبناني هو خسارة العوائد المتراكمة. أَخذًا بالاعتبار أَنَّ حسابات المودع جمدت مِن دُون أي فوائد منذ تشرين الأول العام 2019. لتقييم هذه الخسارة بشكل مهني، يجب مقارنة وضع المودع لو كان قد استثمر أمواله في أدوات مالية دولية آمنة مثل سندات الخزينة الأمريكية أو الـ SOFR (Secured Overnight Financing Rate).

تطور معدلات الفائدة العالمية على الدولار

شهدت الفترة من 2019 إلى 2025 تقلبات دراماتيكية في معدلات الفائدة العالمية. بعد فترة من المعدلات الصفرية في خلال جائحة كورونا، رفع الاحتياطي الفيدرالي الفائدة لمواجهة التضخم، لتصل في أواخر العام 2025 إلى نَحُو 3.75%.


بناءً على هذا التحليل، فإن مبلغ الـ 100 ألف دولار المتبقي في الحساب كان من المفترض أن ينمو ليصبح نَحُو 118 ألف دولار كقيمة إِسمية في نهاية العام 2025 لو وُضع في بيئة مالية طبيعية. وبالتالي، فإن مجرد “تجميد الفائدة” يمثل هيركات ضمنِيًّا بنسبة 18% تقريبًا على أصل المبلغ المتبقي، ناهيك عن الفوائد الضائعة على المبالغ التي سُحبت سابِقًا.

مشروع قانون الفجوة المالية 2025: تقسيط الـ 100 ألف دولار

في كانون الأول 2025، طرحت حكومة الرئيس نواف سلام مشروع قانون “الانتظام المالي واسترداد الودائع”. هذا المشروع هو المحاولة التشريعية الأولى للاعتراف بمسؤولية الدولة والمصارف عن الفجوة المالية التي تزيد عن 70 مليار دولار.

تفاصيل آلية السداد المقترحة

يقترح المشروع سداد الودائع التي تقل عن 100 ألف دولار (والتي تشمل 85% من المودعين) بالقيمة الحقيقية على مدار 4 سنوات. بالنسبة للحالة موضوع النحاكاة، سيتم سداد الـ 100 ألف دولار المتبقية وفق الآلية الآتِيَة:
دفعات دورية: سداد المبلغ عبر أقساط شهرية أو فصلية حسب اختيار المودع.
القيمة الحقيقية: يؤكد المشروع أن السداد سيكون بالدولار “الحقيقي” أو ما يعادله لضمان عدم تعرض المودع لهيركات إضافي ناتج عن تذبذب العملة المحلية.
الحد الأدنى للسداد: أشارت بعض المداولات الحكومية إلى وضع حد أدنى للسداد الشهري بنحو 1,500 دولار لضمان سرعة التنفيذ.

الحساب الرياضي للهيركات الفعلي التراكمي

للوصول إلى إجابة دقيقة على التحصيل الفعلي للمودع، يجب حساب “القيمة الحالية” (PV-Present Value) للأقساط المستقبلية ومقارنتها بالقيمة الاقتصادية للوديعة لو لم تحدث الأزمة.

أولًا: خسارة القيمة الزمنية للنقود (2026-2029)

سداد 100 ألف دولار على 4 سنوات (أي 25,000 دولار سنوِيًّا) يعني أن المودع لن يحصل على كامل القوة الشرائية للمبلغ اليوم. باستخدام معدل خصم (Discount Rate) يعادل الفائدة العالمية المتوقعة (نحو 3.5% سنوِيًّا بناءً على توقعات 2026)، يمكن حساب القيمة الحالية كالآتي:

بِحِسَابِ الأقساط الأربعة:

-السنة الأولى: 25,000 / 1.035 = 24,154
-السنة الثانية: 25,000 / (1.035)^2 = 23,338
-السنة الثالث: 25,000 / (1.035)^3 = 22,548
-السنة الرابعة: 25,000 / (1.035)^4 = 21,786
إجمالي القيمة الحالية: 91,826 دولار تقريبًا.
هذا يعني أن التقسيط وحده يقتطع نَحُو 8.17% من القيمة الاقتصادية للمبلغ المتبقي كمعدل هيركات “زمني”.

ثانيًَا: الهيركات الناتج عن السحوبات السابقة

افترضنا أن المودع سحب في المرحلة الأولى (2020-2023) جزءًا من وديعته بالليرة بسعر صرف وسطي قدره 8,000 ليرة بينما كان سعر السوق الوسطي 40,000 ليرة. في هذه الحالة، الخسارة كانت 80% من قيمة كل دولار مسحوب بالليرة.
إذا كان المودع قد سحب (وَفقًا لهذه المحاكاة) 30 ألف دولار (نصفها بالليرة ونصفها بالفريش)، فإن الخسارة في الجزء “اللولاري” هي:
15000×08=12000

ثالِثًا: خسارة الفوائد التراكمية (عشر سنوات)

يمتد تجميد الفوائد من 2019 حتى 2029 (نهاية التقسيط). بمعدل فائدة عالمي محافظ (3%)، فإن الـ 100 ألف دولار كان يجب أن تولد عائِدًا مُرَكَّبًا على مدار 10 سنوات:

تقدير الهيركات الاجمالي:

بناءً على هذه الحسابات، نجد أن المودع الذي سيسترد “إِسمِيًّا” 100 ألف دولار بحلول العام 2029، يكون قد خسر فعلِيًّا ما يعادل 54.5% من القيمة الاقتصادية لثروته الأصلية المحتملة. إن هذا الرقم يمثل “قسمة الهيركات الفعلي” التي تحملها المودع منذ بداية السحب وحتى إغلاق الحساب.

ملاحظة:
– لقد افترضت هذه المحاكاة وديعة بقيمة 130 ألف دولار عند نقطة بداية الازمة، لكن يمكن استخدام هذه المحاكاة كمنهجية لاحتساب اي مبلغ آخر.
– لَم يُحتَسَب فاقد إعادة استثمار الفوائد الضائعة.

نُشر في منصة “بالعربي”.