د. بيار الخوري – بيروت يا بيروت
د
في رحاب التاريخ الإنساني، يبرز لقب “المعلم” المرتبط بالسيد المسيح كحالة استثنائية تتجاوز التوصيف الوظيفي لتلامس جوهر الوجود؛ فهذا اللقب الذي أجمع عليه متبعوه من المسيحيين وقدره المسلمون في شخص النبي عيسى ابن مريم، لم يكن وليد رتبة أو انتساب لمؤسسة، بل كان تجسيداً لنمط من التعلم الحر الذي يكسر الجمود المؤسسي ليتصل مباشرة بنبض الحياة.
إن فلسفة المسيح في التعليم قامت على هدم الأسوار بين “المعرفة” و”السلوك”، حيث لم تكن الحقيقة لديه مجرد نصوص تُلقن في الهياكل أو قاعات الدرس، بل كانت كائناً حياً يتنفس في الحقول، وعلى ضفاف البحيرات، وفي بيوت البسطاء.
هذا الخروج عن “الأطر الرسمية” يضعنا اليوم أمام مراجعة نقدية لمفهومنا المعاصر عن العلم؛ فبينما تحول التعليم الحديث في كثير من جوانبه إلى منظومة ميكانيكية لإعداد القوى العاملة، قدم المسيح نموذجاً “للتعليم بالقدوة” الذي يرى أن المعلم ليس ناقلاً للمعلومة بل هو “الرسالة” ذاتها، مما يفتح أفقاً لفهم التعلم كعملية تحرر روحي وعقلي مستمرة، لا تنتهي بنيل شهادة أو انقضاء مرحلة زمنية.
وعند سبر أغوار هذا المنهج، نجد أن المركز الذي دارت حوله تعاليم المسيح هو “منظومة القيم” التي أعاد صياغتها برؤية تُعلي من شأن الجوهر على حساب الشكل؛ فالعلم في مدرسة الأنبياء والرسل والقديسين ليس غاية في حد ذاته، بل هو وسيلة لتحقيق الرحمة، والتواضع، وإحقاق الحق.
هذه القيم لم تكن شعارات نظرية، بل كانت “سلوكاً مجسداً”؛ فالاستاذ الذي لا يرحم، والمدير الذي لا يثق، والعالِم الذي لا يتقي، هم في عرف هذه المدرسة أصحاب معرفة عرجاء.
وهنا تبرز الحاجة الملحة للعلم المعاصر في لحظته الراهنة إلى استعادة “بوصلة القيم” التي حملها الأنبياء؛ فالعالم اليوم، رغم وصوله إلى ذروة الانفجار التكنولوجي والذكاء الاصطناعي، بات يعاني من “جفاف المعنى” وتوحش المادية التي جعلت من العلم أداة للهيمنة بدلاً من كونه وسيلة للارتقاء الإنساني.
إن العودة إلى إرث الانبياء والقديسين والرسل ليست نكوصاً إلى الماضي، بل هي استشراف للمستقبل عبر ضخ “الروح” في جسد العلم البارد، ليكون العلم خادماً للإنسان لا سيداً عليه، وميداناً لنشر السلام والعدل بدلاً من كونه وقوداً للصراعات.
إن المسيح المعلم، في هذا السياق من القيم المشتركة بين الأديان، يظل صرخة في وجه التلقين الأصم، ودعوة ليكون العلم عبادة روحية ومسؤولية أخلاقية تعيد صياغة الإنسان قبل أن تعيد صياغة المادة





