اقتصاد الكاش في لبنان: نتيجة انهيار لا انحراف إقتصادي

الإطار العام للأزمة: الانهيار المالي–الاقتصادي وغياب الحوكمة (منذ 2019)

الملف الإستراتيجي

إعداد د. إيلي الخوري

يعيش المواطن اللبناني منذ خريف عام 2019 حالة استثنائية من عدم الثبات المالي والمجتمعي، في وطن أنهكته الانهيارات الاقتصادية المتلاحقة والحروب، تزامناً مع غياب واضح وتام لأي خطة بديلة أو محاولة جادة للإصلاح، ولو بشكل ظرفي، من قبل مؤسسات الدولة. إن هذا الانهيار، الذي يصنفه البنك الدولي كواحد من أشد ثلاث أزمات اقتصادية عالمية منذ منتصف القرن التاسع عشر، يترافق مع اختفاء كامل لأي خارطة طريق تهدف إلى إصلاح الوضع المأزوم أو إلزام الجهات المختصة بتحمل مسؤولياتها القانونية والأخلاقية تجاه المجتمع.

في هذا السياق، تبرز محاولات السلطة اللبنانية، استجابةً لضغوط بعض القوى الدولية والمنظمات الرقابية، لمكافحة ما يعرف بـ “اقتصاد الكاش” (Cash Economy). هذا النمط الاقتصادي الذي لم يتبقَّ للمواطن اللبناني سواه كطريقة آمنة للتعامل اليومي، أصبح اليوم تحت خطر الاتهام بتسهيل عمليات غسيل الأموال، مما وضع المواطن في مواجهة مباشرة مع إجراءات تضييقية تقودها بعض المصارف وشركات التحويل المالي داخل لبنان وخارجه. وكأنه لا يكفي المواطن خسارته لمدخرات العمر، ليجد نفسه اليوم مضطراً للبحث عن ملاذات بديلة كالذهب أو العقارات، في ظل بيئة تفتقر لأدنى مستويات الحماية الفعلية.

1- التحليل البنيوي للانهيار المصرفي والمالي في لبنان

1.1- الانهيار وتفكك العقد المصرفي
تعتبر العلاقة بين المودع والمصرف الاساس في أي نظام مالي مستقر، إلا أن هذه العلاقة في لبنان دُمرت بشكل منهجي بعد عام 2019. يعود ذلك بشكل أساسي إلى عجز المصارف عن دفع مستحقات عملائها، وتجميد الودائع عبر إجراءات غير قانونية تمت في ظل غياب تشريعات واضحة مثل قانون “الكابيتال كونترول” (Capital Control) أو “الهيركات” (Haircut).

1.2- غياب الشفافية.
يشير تحليل البنك الدولي في فصول تتناول الانهيار المصرفي إلى غياب تام لشفافية الميزانيات المطروحة من قبل القطاع المالي. هذا الغياب لخارطة الطريق يعكس صراعاً على توزيع الخسائر المالية التي تراكمت عبر عقود من “الهندسات المالية”. فهذا التراجع بثقة المؤسسات المالية أدى الى الانتقال من الاقتصاد المصرفي إلى اقتصاد النقد والتعاملات الورقية.

تظهر جميع البيانات النقدية تدهورًا اقتصاديًا كبيرًا منذ 2019، إذ انخفضت الودائع الخاصة إلى 88 مليارًا، وبلغ اقتصاد الكاش 9.86 مليارات دولار، مع خسائر مالية بين 72 و80 مليار دولار، ما يظهر عمق الفجوة التي خلفها الانهيار، حيث تآكلت الودائع بنسبة تفوق 50% عبر عمليات “تذويب” غير رسمية، شملت سحب الودائع بأسعار صرف منخفضة جداً أو تسوية القروض بشيكات مصرفية محجوزة، بالإضافة الى لعبة المتاجرة بالشيكات.

1.3- الشق النقدي وسياسات التضخم
مع تأكل قيمة الليرة اللبنانية بنسبة تجاوزت 98%، وانفلات سعر الصرف في ظل غياب سياسة نقدية مستقرة، اتجه المواطن اللبناني نحو “الدولرة الشاملة” كآلية وحيدة للحماية من التضخم. لقد ترافق هذا الانهيار مع ما اصطلح على تسميته بـ “اللولار”، وهو الدولار المحجوز في المصارف الذي يخضع لاقتطاع فعلي (Haircut) عند السحب بالعملة المحلية.

1.4- فجوة الميزانيات واختفاء الضمانات
بحسب تشخيص البنك الدولي لفجوة الميزانيات بين عامي 2021 و2023، تحول الانطباع الشعبي إلى قناعة راسخة بأن أي إيداع جديد في النظام القديم سيتحول فوراً إلى أرقام محجوزة لا قيمة فعلية لها. هذا الانهيار المصرفي تزامن مع ارتفاع جنوني في أسعار السلع، مما جعل استراتيجية السلطة القائمة على “شراء الوقت” و”نظريات دعم السلع” كالتين المجفف والكاجو، مقابل اللاشيء.

وأشارت التقارير الفنية إلى أن الفجوة المالية في القطاع المصرفي اللبناني وصلت إلى مستويات تاريخية، حيث تعجز الأصول السائلة عن تغطية الالتزامات بنسبة مخيفة: هذه النسبة الضئيلة توضح لماذا يواجه المودعون قيوداً صارمة على سحوباتهم، حيث لا تملك المصارف سوى هامش ضيق جداً من السيولة الجاهزة للاستخدام لدى المصارف المراسلة.

1.5- الحصار المالي والعزلة الدولية بعد عام 2019
استناداً إلى تقارير المصارف المراسلة المذكورة في دراسات صندوق النقد الدولي، توقفت معظم المصارف العالمية عن التعامل الكامل مع القطاع اللبناني. لم يتبقَّ سوى مصرف مراسل واحد يقوم بالحد الأدنى من المهام الضرورية، وهو ما شكل طبقة إضافية من الحصار فوق الانهيار الداخلي. لذا، فإن تراجع التحويلات الخارجية عبر القنوات الرسمية أدى إلى نشوء قنوات موازية، مما زاد من مخاوف المجتمع الدولي بشأن غسيل الأموال وتمويل الأنشطة غير الرسمية.

1.6- تداعيات الإدراج على القائمة الرمادية (FATF)
في تشرين الأول 2024، اتخذت مجموعة العمل المالي (FATF) قراراً بإبقاء لبنان تحت المراقبة المتزايدة، أو ما يعرف بـ “القائمة الرمادية”. هذا القرار، الذي استمر مفعوله في عام 2025، يعكس فشل السلطات اللبنانية في تطبيق معايير الامتثال الدولية. وتتمثل التداعيات المباشرة لهذا الإدراج في:
1. زيادة تكاليف التحويلات المالية الدولية نتيجة متطلبات العناية المشددة.
2. تأخير في تنفيذ المدفوعات، ما يؤثر على قدرة التجار على استيراد السلع الأساسية.
3. تراجع ثقة المستثمرين الأجانب وصعوبة جذب أي تدفقات مالية جديدة.

2- الإطار النظري: اقتصاد النقد في لبنان: تحليل وظيفي

2.1- من اضطرار إلى واقع يومي: الكاش كحل للبقاء
بحسب دراسة أجرتها الجامعة الأمريكية في بيروت تحت عنوان “تحليل انتقال السوق إلى النقد”، فإن آلية الكاش في لبنان ليست مجرد وسيلة للتهرب الضريبي، بل هي “آلية للبقاء” فرضها توقف النظام المصرفي. لقد أدى توقف المصارف إلى إجبار الجميع: أفراداً، شركات، ومهناً حرة، على التحول نحو اقتصاد بديل يعتمد على النقد المباشر.
توسعت شبكات الدفع النقدية لتشمل قطاعات لم تكن تعتمد عليه سابقاً بشكل كامل:
● العقارات والمحروقات: أصبحت الصفقات تتم نقداً وبالدولار الأمريكي حصراً.
● الرواتب والأجور: انتقل القطاع الخاص إلى دفع الرواتب نقداً (Fresh USD)، بينما يحاول القطاع العام اللحاق بهذا المسار عبر زيادات بسيطة لا تعوض تضخم الأسعار.
● القطاع الطبي والتعليمي: باتت المستشفيات والمدارس تشترط دفع مبالغ نقدية مسبقة، مما أدى إلى تراجع الوصول إلى الخدمات الأساسية لشرائح واسعة من المجتمع.

هذا التحول أدى إلى تراجع حاد في التحصيل الضريبي الرسمي، مما زاد من عجز الموازنة العامة ودفع الدولة إلى اتخاذ إجراءات ضريبية قاسية في موازنة 2024 و2025، شملت “دولرة” بعض الرسوم وإعادة تقييم الشطور الضريبية لتعويض الفاقد المالي.

2.2- بين مكافحة الكاش ومعاقبة المواطن
تحاول الدولة اللبنانية، تحت ضغط المجتمع الدولي، إعادة الإيداعات إلى المصارف لأسباب ضريبية ونقدية، مع وعود بمكافحة غسل الأموال ومنع وصول الأموال إلى جهات تعتبرها القوى الدولية غير رسمية أو “إرهابية”. يترافق هذا التوجه مع ضغط دولي كبير يكرر تطبيق حصار مالي على لبنان، مما يجعل المواطن في حالة هروب مستمر من المصارف باتجاه أي ملاذ آمن آخر.

2.3- التناقض في سلوك السلطة والمصارف
يبرز تناقض في خطاب الدولة؛ فهي تطالب بتنظيم اقتصاد الكاش والعودة إلى التعاملات الرسمية، بينما هي نفسها تعتمد على النقد في كثير من معاملاتها ورواتب موظفيها. من جهة أخرى، تظهر المصارف “وقاحة” في تطبيق القوانين النقدية دون أي مراعاة للأموال المحجوزة لديها، مكتفية بخطابات رنانة حول “بناء الثقة” ووعود بالإصلاح مرتبطة دائماً بالاتفاق السياسي الغائب.يشير خبراء اقتصاد إلى أن مسؤولية المصارف لا تقتصر على إدارة الأموال، بل تمتد إلى حمايتها، وأن التذرع بعدم الاستقرار السياسي ليس مبرراً قانونياً لحجز الودائع. إن غياب خطة واضحة لتوزيع الخسائر يظل العقبة الكأداء أمام استعادة أي شكل من أشكال الثقة بالقطاع المالي.

2.4- قانون “فجوة الميزانية” وصراع استرداد الودائع
في مطلع عام 2025، تركز النقاش حول مشروع “قانون الفجوة المالية” الذي يهدف لمعالجة عجز القطاع المالي المقدر بـ 80 مليار دولار. هذا المشروع واجه معارضة شرسة من جمعية المصارف التي شنت “حرباً” إعلامية وقانونية عليه، معتبرة أنه يحملها خسائر ناتجة عن سياسات الدولة ومصرف لبنان.
يقترح قانون الهيكلة حماية الودائع الصغيرة دون 100 ألف دولار عبر استردادها خلال 4 سنوات، فيما تُحوَّل الودائع الأكبر إلى سندات أو أسهم، مع شطب فوائد مرتفعة غير منطقية، وفرض رسوم أو ضرائب على الأموال المُحوَّلة إلى الخارج بعد 2019.
رغم هذه المقترحات، يظل التنفيذ مرهوناً بمدى جدية القوى السياسية في مواجهة قطاع المصارف، ومدى استعداد صندوق النقد الدولي للموافقة على صيغة لا تؤدي إلى إفلاس الدولة بالكامل.

2.5- أثر النزاعات الإقليمية على احتمال التعافي (2024-2025)
لم تكن الأزمة الاقتصادية وحدها هي التحدي، بل زاد النزاع المسلح والعمليات العسكرية في عام 2024 من عمق الجراح اللبنانية. تشير تقديرات البنك الدولي إلى أن التكلفة الاقتصادية للنزاع بلغت حوالي 14 مليار دولار، مع تدمير واسع في البنية التحتية والمساكن.
أدى هذا النزاع إلى انكماش إضافي في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تفوق ال6% في عام 2024، مما اوقف بوادر الاستقرار الطفيفة التي ظهرت في عام 2023 بفضل السياحة والتحويلات. هذا الواقع الجديد جعل من شروط صندوق النقد الدولي، وخاصة فيما يتعلق بإصلاح مؤسسات الدولة، أمراً أكثر إلحاحاً وصعوبة في آن واحد.

الخاتمة: المستقبل المجهول.
بناءً على المعطيات أعلاه، يبدو أن استعادة الثقة قبل فرض إجراءات إصلاحية جذرية هو أمر صعب ان لم نقا مستحيل. إن محاولات مكافحة اقتصاد الكاش في هذه اللحظة، دون وجود نظام مصرفي صالح أو قوانين تحمي الودائع، لا يمكن اعتبارها إصلاحاً بل هي “خطأ تاريخي” يفرض على المودعين مرة أخرى تحت حجج سياسية واقتصادية واهية.
يجد المواطن اللبناني نفسه اليوم بين سندان التشدد الرسمي ومطرقة التجربة المصرفية المريرة. فبينما يطالب المجتمع الدولي بالضغط على أطراف معينة، يظل المواطن العادي هو من يدفع الثمن الأكبر عبر فقدان قدرته الشرائية وانعدام أمنه المالي. إن السيناريو الأرجح في المدى المنظور هو استمرار اقتصاد الكاش كأمر واقع دائم، طالما أن الدولة ترفض الاعتراف بحجم الفجوة وتوزيع الخسائر بشكل عادل، وطالما أن المصارف تكتفي بشراء الوقت بانتظار معجزة سياسية لن تأتي دون إصلاحات حقيقية وهيكلية.

في الختام، إن المسؤولية تقع على عاتق صانعي القرار لتقديم خطة شفافة تتجاوز الخطابات الرنانة، وتبدأ بالاعتراف بحقوق المودعين كمدخل أساسي لإعادة بناء أي نظام مالي مستقبلي مع توزيع عادل للخسائر. فبدون عدالة في توزيع الخسائر، سيبقى لبنان يدور في حلقة مفرغة من الانكماش والعزلة، وسيبقى المواطن هو الضحية الوحيدة لهذا التواطؤ بين السياسة والمال.

List of References

● Asharq Business. (n.d.). لبنان منفتح على سماّع مقترح سندوق النقد لسد فجوة بـ80 مليارا [Lebanon open to IMF proposal for $80 billion gap fund]. https://asharqbusiness.com/economics/108023/%D9%84%D8%A8%D9%86%D8%A7%D9%86-%D9%85%D9%86%D9%81%D8%AA%D8%AD-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%B3%D9%85%D8%A7%D8%B9-%D9%85%D9%82%D8%AA%D8%B1%D8%AD-%D8%B5%D9%86%D8%AF%D9%88%D9%82-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%87%D9%82-%D9%84%D8%B3%D8%AF-%D9%81%D8%AC%D9%88%D8%A9-%D8%A8-80-%D9%85%D9%84%D9%8A%D8%A7%D8%B1%D8%A7/

● El Halabi, L. N. (2023). Predicting banking crises using machine learning: The case of Lebanon [Master’s thesis, American University of Beirut]. AUB ScholarWorks. https://scholarworks.aub.edu.lb/server/api/core/bitstreams/5f7a924f-df0f-4811-ba51-ae8afbbb5188/content

● Ramirez Rigo, E. (2025, March 13). IMF staff concludes visit to Lebanon (Press release PR25062). International Monetary Fund. https://www.imf.org/en/news/articles/2025/03/13/pr25062-lebanon-imf-staff-concludes-visit

● World Bank. (n.d.). Lebanon Economic Monitor. https://www.worldbank.org/en/country/lebanon/publication/lebanon-economic-monitor

● World Bank. (2024, December 10). Lebanon’s economic contraction deepens, highlighting critical need for reforms and key investments [Press release]. https://www.worldbank.org/en/news/press-release/2024/12/10/lebanon-s-economic-contraction-deepens-highlighting-critical-need-for-reforms-and-key-investments