مركز السياسات والاستشراف المعرفي
إعداد : خليل جرجي الخوري
في العقدين الأخيرين، انزلقت البشرية إلى ساحة صراع غير مألوفة. حرب لا تُرى على الخرائط ولا تُعلن عبر البيانات العسكرية ولا تشتهر بصور الدبابات والطائرات. إنّها حرب صامتة، لكنها حاسمة. حرب تخاض في مرافئ نائية وداخل مختبرات متقدمة وفي أعماق مناجم بعيدة كما تخاض في مراكز الأبحاث وفي دهاليز الشركات الرقمية الكبرى. هذه الحرب ليست مجرّد اقتصادية؛ إنها حرب المعادن النادرة التي التحمت منذ سنوات قليلة مع ما أسميته في كتاباتي بـ “الحرب الرقمية الباردة”، وهي المنافسة التكنولوجية الأشد ضراوة في تاريخ البشرية الحديث بين الصين والولايات المتحدة. إنّ فهم هذا التشابك بين المعادن النادرة والذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة والبنى السحابية هو مفتاح فهم شكل الجيوسياسة المقبلة. فمن يملك هذه الحلقة الثنائية يملك السيطرة على التكنولوجيا، ومن يملك التكنولوجيا يملك القوة الاقتصادية والعسكرية والنفوذ العالمي.
القسم الأول: المعادن النادرة… معادن المستقبل التي أصبحت أسلحة
طبيعة هذه المعادن ولماذا هي “نادرة” سياسيًا؟
تضمّ مجموعة “عناصر الأرض النادرة” سبعة عشر عنصراً كيميائياً من بينها النيوديميوم والديسبروسيوم والإيتريوم والهولوميوم وغيرها. لا تُعدّ هذه العناصر نادرة من حيث التواجد في القشرة الأرضية، لكنها نادرة من حيث إمكانية استخراجها وصعوبة تنقيتها والتلوث الناتج عنها، ما يجعل عدداً كبيراً من الدول يعزف عن استغلالها. ولهذا السبب تحوّلت هذه العناصر إلى موارد استراتيجية تتحكم بها دول قليلة. فالنيوديميوم والديسبروسيوم مثلاً ضروريان في إنتاج المغانط فائقة القوة التي تُشغّل محرّكات السيارات الكهربائية، والإيتريوم أساس الليزرات الصناعية والطبية، أما الهولوميوم فله دور في أنظمة التحكم النووي. وبذلك باتت هذه العناصر حجر الأساس في الصناعات الحيوية لكل دولة تريد أن يكون لها مستقبل تكنولوجي أو عسكري.
لماذا تُعتبر هذه المعادن جزءًا من الأمن القومي؟
لأنّ كل منظومة تكنولوجية معاصرة من أصغر هاتف ذكي إلى أعقد منظومة صاروخية لا تعمل بدونها. توقف استيراد المعادن النادرة يعني تعطّل إنتاج الصواريخ الذكية، وانخفاض مخزون الديسبروسيوم قد يوقف مصانع السيارات الكهربائية، وتأخّر شحنات النيوديميوم قد يشلّ مصانع التوربينات الهوائية. ولأن هذه المعادن تقع في قلب الصناعات المدنية والعسكرية صارت جزءاً من الأمن القومي، وبات التحكم بها أداة ضغط جيوسياسي كما حدث عام 2010 عندما قامت الصين وبشكل غير مباشر بتقييد صادراتها لليابان بسبب نزاع بحري، ما أدّى إلى أزمة عالمية في أسعار هذه العناصر.
القسم الثاني: الصين… من السيطرة على المناجم إلى السيطرة على المستقبل
رحلة طويلة نحو الهيمنة
منذ التسعينيات تبنّت الصين استراتيجية هادئة وطويلة النفس تقوم على بناء قدرة هائلة في استخراج المعادن النادرة ومعالجتها وتصنيع منتجاتها النهائية. وبينما كانت الدول الغربية تُغلق مناجمها لأسباب بيئية، كانت بكين تدعم المناجم المحلية حتى بأسعار خاسرة، وتستضيف مصانع الشركات الأجنبية لإجبارها على نقل التكنولوجيا، وتسيطر على سلسلة التوريد من المنجم إلى المنتج النهائي، وتخفض الأسعار عالميًا لإفلاس المنتجين المنافسين. ومع الوقت أصبحت الصين تُنتج ما بين سبعين إلى خمسة وثمانين في المئة من المعادن النادرة في العالم، وتُسيطر على تسعين في المئة من عمليات التكرير والمعالجة، وهو الجزء الأصعب والأهم في السلسلة الصناعية.
الهيمنة على الصناعات المرتبطة بالمعادن
لم تكتفِ بكين بإدارة المناجم، بل باتت تهيمن على تصنيع المغانط الدائمة العالية القوة، وعلى الليزرات الصناعية والطبية المتقدمة، وعلى إنتاج بطاريات الليثيوم الضخمة، وعلى مصانع السيارات الكهربائية حيث تجاوزت “BYD” شركة “تسلا” في المبيعات، وعلى البنى التحتية للشبكات والذكاء الاصطناعي. هذه السيطرة الشاملة جعلت الصين ليست مجرد منافِس اقتصادي، بل مُهندس مستقبل التكنولوجيا.
القسم الثالث: الولايات المتحدة أمام “مأزق التبعية”
انكشاف عسكري خطير
تعتمد الولايات المتحدة على المعادن النادرة في كل أنظمتها العسكرية الحديثة، بما في ذلك مقاتلات F-35 وصواريخ جافلين وهيمارس وأنظمة الرادار المتقدمة والغواصات النووية والأقمار الصناعية العسكرية. وتشير تقارير عديدة إلى أن قطع إمدادات الصين لبضعة أشهر قد يوقف خطوط إنتاج الدفاع الأميركي لسنوات. وعند هذه النقطة أدركت واشنطن أن المعادن النادرة ليست موارداً اقتصادية، بل قضية سيادة وطنية.
انطلاق معركة “فكّ الارتباط”
ابتداء من عام 2018 شرعت واشنطن في بناء استراتيجية جديدة تشمل إعادة فتح منجم ماونتن باس في كاليفورنيا، وإقامة اتفاقيات مع أستراليا وكندا والهند لتأمين الموارد، ودعم الشركات الأميركية التي تعمل في التكرير والمعالجة، ومنع الشركات الصينية من شراء مناجم في أفريقيا وأميركا اللاتينية، وفرض قيود على نقل التكنولوجيا الحساسة. لكن الولايات المتحدة تواجه تحدياً كبيراً لأنها متأخرة جداً، والصين سبقتها بأكثر من عشرين عاماً.
القسم الرابع: أوروبا… اللاعب المتردد في سباق هائل
على الرغم من إيمان أوروبا بالتحول الطاقوي والتكنولوجيا الخضراء، ما تزال مستورداً شبه كامل للمعادن النادرة. ورغم اكتشافات جديدة في السويد وفنلندا يبقى الطريق طويلاً نحو المنافسة. فصناعة السيارات الألمانية معقل الصناعة الأوروبية تعتمد كليًا على المغناطيسات الصينية، وتوربينات الرياح الأوروبية تعتمد على المكوّنات الصينية أيضاً. ومع كل محاولات بروكسل لتأسيس “التحالف الأوروبي للمعادن الاستراتيجية”، يظل الاختلال الكبير في ميزان القوى واضحاً.
القسم الخامس: أفريقيا وآسيا الوسطى… الجبهة الصامتة للحرب
بينما تتصارع واشنطن وبكين في الدبلوماسية والغرف المغلقة، تدور المعركة الحقيقية على أراضي أفريقيا وآسيا الوسطى حيث المخزونات الضخمة غير المستغلة. تعمل الصين عبر بناء الطرق والموانئ وتقديم قروض ميسرة وربط الدول الفقيرة بمشاريع الحزام والطريق والحفاظ على علاقات طويلة الأمد. وتعمل الولايات المتحدة وأوروبا عبر إبرام اتفاقيات تجارية وتمويل مشاريع تنقيب محدودة ومحاولة تقويض النفوذ الصيني. ومع ذلك ما زال التفوق الصيني واضحاً في هذه المناطق.
القسم السادس: من المعادن إلى السيليكون… كيف اندمجت هذه الحرب في “الحرب الرقمية الباردة”؟
لقد كنتُ قد وضعت سابقاً مفهوم “الحرب الرقمية الباردة” لفهم الصراع الخفي بين الولايات المتحدة والصين، وهو صراع يتجاوز الجيوش والاقتصاد التقليدي ليتمحور حول الذكاء الاصطناعي والخوارزميات والبيانات الضخمة والبنى السحابية وأشباه الموصلات وشبكات الجيل الخامس والأمن السيبراني والروبوتات والحوسبة الكمية. لكن ما لم يكن واضحًا كفاية هو أنّ هذه الحرب التكنولوجية لا يمكن فصلها عن حرب المعادن النادرة، فبدون هذه المعادن لا يُصنع أي خادم Supercomputer، ولا تعمل المغانط التي ترفع قدرة المحركات في الروبوتات، ولا تُصنع شرائح المعالجات الدقيقة، ولا تُبنى مزارع الطاقة التي تُغذّي مراكز البيانات، ولا تنجح السيارات الذكية التي تعتمد على ليدارات ولواقط تعتمد على الأرض النادرة. إنّ المعادن النادرة هي البنية التحتية المادية للحرب الرقمية الباردة تمامًا كما كانت آبار النفط البنية التحتية للحرب الباردة.
القسم السابع: الذكاء الاصطناعي… الجبهة الأكثر حساسية في الصراع
يتعامل كثيرون مع الذكاء الاصطناعي باعتباره مسألة برمجية أو تطورًا في قدرات الحوسبة، لكن الحقيقة أن الذكاء الاصطناعي اليوم هو مجال نفوذ، وسلاح جيوسياسي، ومحرك اقتصادي، وأداة سيطرة اجتماعية. وهو كذلك المرتكز الأهم الذي تتفرع منه كل خطوط الصراع الجديدة بين القوى الكبرى. فالولايات المتحدة ترى أن تفوقها التاريخي في أشباه الموصلات والبرمجيات قد منحها قيادة عالمية لعقود، بينما تعتبر الصين أن اللحظة التاريخية الحالية تمثل أفضل فرصة لتجاوز الغرب عبر التفوق في الذكاء الاصطناعي التطبيقي، وفي بناء المدن الذكية، وفي دمج الخوارزميات في الاقتصاد والمجتمع.
الجانب الذي يظل خافيًا على الكثيرين هو أن الذكاء الاصطناعي لا يعمل دون قدرة هائلة على معالجة البيانات وتخزينها وتشغيل الخوارزميات، وهذه القدرات تعتمد مباشرة على سلسلة المعادن النادرة وعلى الصناعات المرتبطة بها. إنّ بناء مركز بيانات ضخم واحد يحتاج إلى آلاف القطع الإلكترونية التي يدخل في تركيبها عناصر أرضية نادرة، ناهيك عن المغانط الفائقة اللازمة لتشغيل المحركات وأنظمة التبريد والمستشعرات. ولأن هذه العناصر هي عصب الآلات التي تشغّل الذكاء الاصطناعي، تكون السيطرة عليها بمثابة السيطرة على مستقبل التكنولوجيا.
ولذلك فإن الصراع الأميركي – الصيني لم يعد صراعًا على “الأفضلية في الذكاء الاصطناعي” فحسب، بل أصبح صراعًا على المواد الأولية التي تجعل الذكاء الاصطناعي ممكنًا. فالصين تريد توظيف تفوقها في المعادن النادرة لفرض شروط على النظام التكنولوجي العالمي، بينما تحاول الولايات المتحدة خلق منظومة موازية تمنع بكين من استغلال هذا التفوق كأداة ضغط جيوسياسي.
القسم الثامن: الذكاء الاصطناعي العسكري… الجغرافيا الجديدة للحرب
عندما يدخل الذكاء الاصطناعي في الأنظمة العسكرية، تتحول الجغرافيا العسكرية نفسها. فالحروب المستقبلية لن تعتمد فقط على الدبابات والطائرات، بل على القدرة على تحليل البيانات الفورية، واستخدام أنظمة توجيه ذاتي للصواريخ، وتشغيل أسراب الطائرات المسيّرة في شبكة واحدة منسقة، وإدارة الدفاعات الجوية عبر أنظمة ذكية قادرة على اتخاذ قرارات شبه مستقلة. كل هذه القدرات تعتمد بصورة مباشرة على المعادن النادرة وعلى وحدات المعالجة المتقدمة التي تتغذى عليها تطبيقات الذكاء الاصطناعي.
في هذه الجبهة، تمتلك الصين تفوقًا في البنية التحتية، بينما تمتلك الولايات المتحدة تفوقًا في البرمجيات والخوارزميات. هذا التوازن غير المستقر يفتح الباب أمام جيل جديد من سباقات التسلح، حيث تصبح الإمدادات المعدنية نفسها عنصرًا من عناصر الردع. فمن يسيطر على المواد الخام التي تدخل في صناعة المستشعرات والمحركات والمغانط والشرائح، يملك قدرة أكبر على تحديد سرعة تطور الأسلحة الذكية.
وعلى هذا الأساس، تتحول أزمة المعادن النادرة إلى أزمة أمن قومي عالمي، لأن توقف إنتاجها أو تعطّل سلاسل التوريد في ظروف الحرب قد يشلّ بالكامل أنظمة الدفاع أو يمنع تطوير قدرات جديدة.
القسم التاسع: الاقتصاد العالمي بين مطرقة المعادن وسندان الخوارزميات
تكمن خطورة المرحلة الراهنة في أن الاقتصاد العالمي نفسه أصبح مبنيًا على تزاوج لا يمكن فصله بين المواد الأولية النادرة وبين الابتكارات الرقمية. فالمحركات الكهربائية تعتمد على المعادن النادرة، والسيارات الذكية تعتمد على الخوارزميات، وتوربينات الرياح تعتمد على المغانط القوية، وشبكات الجيل الخامس تعتمد على مستشعرات متقدمة. وكلها تعتمد على سلسلة التوريد نفسها التي تتحكم فيها الصين بدرجة كبيرة.
هذا يجعل القطاع الصناعي العالمي في حالة هشاشة غير مسبوقة. أي اضطراب في الإمدادات يمكن أن يؤدي إلى موجة انكماش صناعي عالمي أو توقف مصانع كاملة. وهذا ما يفسر القلق المتزايد لدى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان والهند، لأن حدوث صدمة في سوق المعادن النادرة قد يتحول بسرعة إلى صدمة في الإنتاج التكنولوجي، ومن ثم إلى أزمة اقتصادية شاملة.
إنّ الارتباط العميق بين المعادن النادرة والاقتصاد الرقمي يجعل كل دولة اليوم تعيد التفكير في مفهوم الأمن الاقتصادي، وفي كيفية ضمان استقلالها الصناعي، وفي إعادة تقييم علاقاتها التجارية والجيوسياسية.
القسم العاشر: العالم نحو خارطة نفوذ جديدة
إذا كانت الحرب الباردة السابقة قد انقسم فيها العالم على أساس أيديولوجي بين المعسكر الغربي والمعسكر السوفييتي، فإنّ الحرب الرقمية الباردة مصحوبة بحرب المعادن النادرة ترسم اليوم خارطة نفوذ تقوم على عناصر مختلفة تمامًا. لم يعد معيار القوة في عدد الجنود أو حجم الأسطول العسكري، بل في القدرة على السيطرة على سلاسل التوريد الحساسة، وفي امتلاك القدرة على تطوير الذكاء الاصطناعي، وفي التحكم بالبنى التحتية الرقمية والطاقة الخضراء.
هذا يجعل الدول الصغيرة والمتوسطة التي تمتلك مخزونًا مهمًا من المعادن النادرة لاعبين محتملين في السياسة العالمية، بينما يضع الدول الصناعية الكبرى أمام تحديات وجودية تتعلق بمستقبل صناعاتها واستقلالها التكنولوجي.
وفي قلب هذه التحولات، يبدو أن العالم يدخل مرحلة جديدة من توازنات القوة تشبه في تعقيدها بدايات القرن العشرين، لكن بأسلحة مختلفة، وأسواق مختلفة، وخرائط مصالح ترسمها الخوارزميات لا الجيوش





