بقلم : أ.د. مصطفى حسين كامل
في مدينة بيليم البرازيلية، حيث تمتد أطراف غابات الأمازون المطيرة وكأنها شرايين حياة الكوكب، انعقد مؤتمر الأطراف الثلاثون (COP30) في لحظة حرجة من تاريخ المناخ. اختيار المدينة لم يكن صدفة، فهو يرمز إلى صلة مصيرية بين مصير أكبر غابة مطيرة في العالم ومستقبل جهود الإنسانية لمواجهة تغير المناخ. منذ اليوم الأول، بدا المشهد معقدًا ومتناقضًا: هناك الطموح المالي غير المسبوق، وهناك الغياب السياسي لبعض كبار صانعي القرار، وهما معًا يضعان القمة عند مفترق طرق حاسم.
قدّمت البرازيل، بالتعاون مع الأمم المتحدة ودول عدة، خارطة طريق طموحة تهدف إلى تعبئة نحو 1.3 تريليون دولار سنويًا بحلول عام 2035 لدعم التكيف المناخي والتحوّل الطاقي في الدول النامية. ولإضفاء جدية على المشروع، أطلقت “دائرة وزراء المالية”، منصة جديدة تضع التمويل في صلب النقاش بدلاً من اقتصار المسؤولية على وزارات البيئة. ولكن، رغم هذه الرؤية الطموحة، لا تزال الأسئلة قائمة حول القدرة على تحويل هذه الأرقام الضخمة إلى تمويل فعلي وقابل للتنفيذ، في ظل تأخر بعض الدول الكبرى في تقديم تعهداتها، وتردد دول أخرى بسبب ضغوط اقتصادية داخلية تتصاعد بوتيرة أسرع من التزامات المناخ.
وفي الوقت نفسه، أطلقت البرازيل مبادرة صندوق الغابات الاستوائية للأبد، التي تسعى إلى تحويل حماية الغابات إلى استثمار طويل الأمد، مع تخصيص جزء من التمويل لدعم المجتمعات الأصلية التي لعبت دورًا تاريخيًا في الحفاظ على الأمازون. ورغم أن المبادرة لاقت ترحيبًا دوليًا باعتبارها إطارًا مبتكرًا لربط التمويل بالنتائج، فإنها أثارت مخاوف من أن يؤدي تحويل الطبيعة إلى أصول مالية إلى تقليص دور هذه المجتمعات وتحويل الغابات إلى سلعة تخضع لقواعد السوق أكثر من خضوعها للحاجة البيئية والعدالة الاجتماعية.
لكن التناقض الأكبر لم يأتِ من الأفكار الجديدة، بل من غياب كبار المسؤولين وصناع القرار. فغياب وزراء الطاقة والمالية، بل وحتى بعض رؤساء الدول، أضعف من قدرة القمة على إصدار قرارات ملزمة، وأكسب النقاش بعدًا رمزيًا أكثر من كونه عمليًا. هذا الفراغ السياسي جعل الطموحات المعلنة تبدو كخطة على الورق لا تصل إلى الأرض، فيما تتواصل الضغوط البيئية بوتيرة تصاعدية لا تنتظر التأجيل أو المراوغة.
على هامش القمة، برزت أصوات السكان الأصليين الذين خرجوا ليذكروا العالم بأن العدالة المناخية ليست مجرد أرقام ووعود، بل تتعلق بحقوق من يعيشون على الأرض ويحمونها. شعاراتهم مثل: “لا يمكننا أكل المال”، أعادت الاعتبار إلى البعد الإنساني للعمل المناخي وذكّرت بأن توزيع الفوائد والالتزامات يجب أن يأخذ في الاعتبار من يمتلك الأرض ومن يقرر مصيرها.
وفي قلب النقاشات، بقي التحول من الوقود الأحفوري محورًا رئيسيًا يواجه تعقيدات سياسية واقتصادية كبيرة. فبينما تعتبر بعض الدول أن الانتقال الطاقي ضرورة أخلاقية وبيئية، ترى دول أخرى أن التحول السريع قد يضر باستقرارها الاقتصادي والاجتماعي، فيما تشير التقارير العلمية إلى أن أي تأخير سيضاعف تكلفة التكيف في المستقبل. هذا الصدام بين الضرورة العلمية والاعتبارات الاقتصادية يعكس التحدي الحقيقي الذي تواجهه COP30، ويجعل أي قرار مؤجل يضيف عبئًا أكبر على الأجيال القادمة.
مع اقتراب ختام القمة، يبدو أن العالم أمام لحظة حاسمة. المبادرات المطروحة ضخمة، والرهانات عالية، والوقت يمرّ بسرعة أكبر مما تسمح به المفاوضات التقليدية الطويلة. إن نجاح COP30 سيعيد رسم خريطة العمل المناخي للسنوات القادمة، فيما سيؤدي الفشل إلى تفاقم التحديات وربما دفع الكوكب نحو نقطة اللاعودة التي يحذر منها العلماء. الغابة التي “تتكلّم” عبر الحرائق والفيضانات والتدهور، تحتاج إلى قرارات عاجلة تتجاوز الوعود لتلامس الواقع، والقادة الذين “يغيبون” عن المشهد يتركون فراغًا قد يحسم مستقبل الكوكب لغير صالح الجميع.
ما ستقرره بيليم لن يبقى في بيليم، إنه قرار سيطال كل مدينة، وكل مجتمع، وكل جيل قادم. COP30 ليست مجرد قمة، بل اختبار لقدرة العالم على مواجهة الحقيقة. النجاح فيها يعني ولادة مرحلة جديدة من العمل المناخي، بينما الفشل سيحول الطموح إلى خطاب رمزي على الورق، ويبقي الغابات والأرض وربما الإنسان على هامش الحسابات.





