كيف أعاد التعليم تشكيل موقع الصين في النظام العالمي؟ | بقلم د. بيار الخوري

الملف الإستراتيجي

في صلب النهضة الصينية الحديثة يقف التعليم بوصفه مشروعًا حضاريًا متكاملًا يستهدف صياغة الإنسان القادر على حمل مسؤوليات الدولة وتطورها. انطلقت الرؤية من قناعة راسخة بأن بناء العقول يشكّل الأساس الذي تُبنى عليه الصناعة والتكنولوجيا والاقتصاد، وأن الاستثمار في المعرفة هو الطريق الأمتن نحو المستقبل. لذلك أعادت الصين تنظيم منظومتها التعليمية بما يجعلها مصدرًا لإنتاج الفكر العلمي والانضباط المؤسسي، بدل أن تكون مجرد قناة لنقل المعلومات. لقد تحوّل التعليم تدريجيًا إلى ركيزة استراتيجية تُصاغ داخلها السمات الذهنية والقيمية للمواطن المتعلم، القادر على العمل المنتج والابتكار المنهجي ضمن إطار وطني يتحرك بخطى ثابتة نحو أهداف بعيدة المدى. وهكذا بدأت ملامح ما يمكن تسميته بالعقل الصيني الجديد تتبلور: عقل منظم، عملي، واسع الأفق، يرى في التعلم مسارًا لبناء الدولة في القرن الحادي والعشرين.

منذ أواخر القرن العشرين، شرعت الصين في تنفيذ رؤية تعليمية بعيدة المدى تستند إلى التخطيط الاستراتيجي للدولة من جهة، وإلى العدالة التعليمية من جهة أخرى، انطلاقًا من إيمان واضح بأن النهضة لا يمكن أن تقوم على فئات محدودة من المتعلمين، بل على قاعدة بشرية واسعة تمتلك الحد الأدنى من المهارات الحديثة والوعي الوطني والمعرفة العلمية.

لذلك عمّمت الدولة التعليم الإلزامي على امتداد مساحاتها الشاسعة، ووجّهت استثمارات كبيرة لإيصال المدرسة إلى القرى البعيدة والمناطق الطرفية، حتى لا يبقى التفوق حكرًا على المراكز الحضرية الكبرى. ومع توسّع البنية التحتية للتعليم، أخذت ملامح سياسة تقوم على بناء الإنسان تتجذر بوضوح: تعليمٌ يوفّر الفرصة للجميع، لكنه في الوقت ذاته محكوم برؤية مركزية طويلة الأفق، ترى في المتعلم رصيدًا وطنيًا ينبغي تنميته ليصبح عنصرًا فاعلًا في مشروع الدولة التنموي.

ولم يكن الهدف من هذا التوسع مجرد رفع نسب الالتحاق بالمدارس أو تحسين المؤشرات الإحصائية، بل تأسيس ثقافة جديدة تربط التعليم بالتقدم الاقتصادي والعلمي، وتضع الإنسان في قلب التحول الوطني.

وهكذا تشكّل جسر قوي بين المدرسة والمجتمع والدولة، فتعمّق الإحساس بأن المعرفة ليست امتيازًا اجتماعيًا، بل هي حق عام ومسؤولية مشتركة، وأن مستقبل الصين يُبنى في الصفوف الدراسية بقدر ما يُبنى في المصانع والمختبرات. ومع تقدم التجربة، بدأت تتكوّن قاعدة بشرية واسعة، تمهّد لولادة جيل مختلف في رؤيته وقدرته ووعيه، منسجم مع ما يمكن تسميته بالعقل الصيني الجديد، القادر على حمل مشروع الأمة في مرحلة التحولات الكبرى.

وفي التعليم العالي، ظهر التحول بصورة أشد وضوحًا، حيث أعادت الصين هندسة وظيفة الجامعة ومكانتها داخل مشروع الدولة. لم تعد الجامعة مجرد فضاء أكاديمي معزول عن حركة المجتمع والاقتصاد، بل أصبحت مركزًا لتخطيط المستقبل العلمي والتكنولوجي، ومحركًا مباشرًا للابتكار الوطني. وقد شكّل مشروع Double First-Class الإطار الأبرز لهذا التحول، إذ حددت الدولة جامعات بعينها لتكون قواعد بحث وتطوير قادرة على إنتاج المعرفة المتقدمة، وتزويد البلاد بالخبرات العلمية المطلوبة في القطاعات الصناعية والتقنية الحسّاسة. وفي ظل هذا النهج، أُعيد تنظيم العلاقة بين الدولة والجامعة والمختبر، فأصبحت ميزانيات الجامعات مرتبطة بمردودها البحثي، وصار الأستاذ الجامعي مسؤولًا عن الإضافة العلمية لا عن النشاط التدريسي وحده، بينما تحوّل الطالب من متلقٍّ للمعرفة إلى عنصر مشارك في منظومة إنتاجها.

هذا المسار أفضى إلى ولادة نموذج جامعي جديد يرتكز على ثلاثية واضحة: البحث العلمي، والابتكار التطبيقي، وخدمة المشروع التنموي للدولة. وبفضل هذا التصور، أضحت الجامعات الصينية مراكز فاعلة لتطوير الصناعات المتقدمة، لا سيما في مجالات الذكاء الاصطناعي، والاتصالات، والطاقة، والروبوتات، والتكنولوجيا الرقمية. وهكذا تكرّست الجامعة باعتبارها ذراعًا علمية لمشروع الدولة، لا مؤسسة نخبوية منفصلة عن الواقع، وازدادت قدرة الصين على ربط المعرفة بالقوة الاقتصادية والعلمية في آن واحد، بما ينسجم مع النموذج القائم على الإنتاج لا الاستهلاك، وعلى البناء لا التلقي.

وموازاةً للتحولات الجامعية، أولت الصين التعليم المهني والتقني موقعًا محوريًا داخل منظومتها، باعتباره حلقة أساسية في بناء القاعدة البشرية القادرة على إدارة الصناعة الحديثة. فقد أنشأت الدولة آلاف المعاهد والمؤسسات التطبيقية المرتبطة مباشرة بالمصانع والشركات الوطنية، بحيث يتلقى الطلاب تدريبهم في بيئة إنتاج حقيقية، ويتعاملون منذ مراحل مبكرة مع التقنيات والآلات وأنظمة التشغيل التي ستشكل مستقبلاً مجال عملهم. وبذلك أُزيلت الفجوة التقليدية بين التعليم وسوق العمل، وأصبح الطالب يتحرك داخل مسار مهني واضح ومحدد، يتطور تدريجيًا بالتوازي مع تطور القطاعات الصناعية التي تحتاج إلى مهاراته.

هذا الاندماج بين المدرسة وخط الإنتاج أوجد نموذجًا فريدًا يقوم على توحيد الجهد التربوي والاقتصادي، بحيث تتقدم المعرفة التقنية والعلمية خطوة بخطوة مع تطور الصناعة الوطنية. فإذا احتاجت الدولة إلى توسيع قدراتها في الطاقة أو الاتصالات أو التكنولوجيا الرقمية، وُجِّه التعليم المهني لتأهيل فئات جديدة من الكفاءات المناسبة، فتتسع القاعدة البشرية بالسرعة نفسها التي تتوسع بها المؤسسات والمصانع. وهكذا لعب هذا النوع من التعليم دورًا تكامليًا مع الجامعات ومراكز البحث العلمي، ليكوّن معًا بنية تعليمية متعددة المستويات، تستجيب لحاجات الدولة لا لشغف الشهادات الورقية. ومع تراكُم نتائج هذا النموذج، تعزز الشعور بأن التعليم ليس مقدمة بعيدة عن مسار النهضة، بل جزءٌ عمليٌ مباشر من بنائها، ورافد أساسي لتثبيت ما يمكن تسميته بالعقل الصيني الجديد القائم على التنظيم والإنتاج والانضباط التقني.

ومع تقدّم التجربة التعليمية، دخل التحوّل الرقمي بوصفه ركيزة أساسية في تطوير البنية المعرفية للصين الحديثة. فقد أدركت الدولة أن إدارة التعليم في بلد واسع المساحة ومرتفع الكثافة السكانية تحتاج إلى منصة وطنية موحّدة تضمن تداول المعرفة بسرعة وكفاءة، فتم إطلاق شبكة CERNET عام 1994 لربط الجامعات ومراكز البحث والمدارس ببنية رقمية متكاملة تُدار على نطاق وطني. وقد أسهمت هذه الشبكة في تجاوز العوائق الجغرافية، وأتاحت انتشار مصادر التعلم وتوحيدها، وجعلت الوصول إلى المناهج والمعرفة أكثر شمولًا واستمرارية، الأمر الذي وفّر قاعدة تقنية صلبة لمواصلة التطوير التعليمي في المراحل اللاحقة.

ومع صعود الذكاء الاصطناعي، توسّع هذا التحوّل خطوة إضافية باعتماد “التعلم التكيّفي”، وهو نهج يقوم على ثلاث آليات مترابطة: تحليل بيانات الأداء التعليمي لمتابعة تقدّم الطالب بصورة مستمرة، وتخصيص المسار المعرفي بما يناسب قدراته الفردية وسرعة استيعابه، وتقديم تغذية راجعة فورية تساعد المعلّم والمتعلم على تصحيح المسار دون تأخير. وقد أتاح هذا الأسلوب تجربة تعليمية أكثر مرونة وعدلًا، إذ لم يعد الطلاب يخضعون لنسق موحّد يساوي بين المتفوق والبطيء، بل بات كل متعلم يسير في طريق معرفي يناسب مستواه الفعلي. وهكذا تعزّز دور التكنولوجيا بوصفها أداة استراتيجية تُنظّم الجهد التربوي وتفتح الطريق أمام بناء جيل قادر على مواكبة الثورة العلمية المقبلة، في انسجام مع ملامح ما يمكن تسميته بالعقل الصيني الجديد الذي يوظف المعرفة والتقنية في خدمة مشروع وطني طويل المدى.

ورغم قوة المنظومة التعليمية الصينية، برزت داخلها ظاهرة الضغط الامتحاني المفرط المرتبطة بمركزية الاختبارات، وخصوصًا امتحان Gaokao الذي تحوّل إلى لحظة حاسمة تحدد مستقبل الطالب الأكاديمي والمهني. وقد أدّى هذا التركيز إلى مستويات عالية من التوتر النفسي وتقليص فرص الابتكار الفردي، بحكم سيطرة “عقلية الدرجة النهائية” على العملية التعليمية.

وإدراكًا لآثار هذه الظاهرة على الصحة الذهنية ومساحة الخيال لدى الطلاب، بدأت الصين تطبيق إصلاحات تدريجية تهدف إلى تنويع أدوات التقييم وتخفيف الاعتماد على امتحان واحد، بحثًا عن توازن أدق بين الانضباط الضروري والإبداع الذي يتطلبه مجتمع المعرفة.

تكشف التجربة الصينية أن التعليم لم يكن قطاعًا إصلاحيًا منفصلًا، بل مشروعًا لبناء الإنسان وتوجيهه ضمن رؤية الدولة للمستقبل. فالجمع بين العدالة التعليمية، والتحول الجامعي، والارتباط بالإنتاج، والتقنية الرقمية، يعكس نموذجًا يسعى إلى صياغة عقل منظم قادر على المشاركة في مشروع وطني طويل المدى. ورغم التحديات المرتبطة بثقافة الامتحان، ظل المسار العام يتجه نحو تطوير منظومة تُعلي قيمة المعرفة وتربطها بالنهضة الاقتصادية والاجتماعية. وهكذا يتشكل ما يمكن تسميته بالعقل الصيني الجديد: عقل تربّيه المدرسة وتمنحه الجامعة أفقه، ليصبح التعليم أداة بناء مستدامة للدولة الحديثة.