محمد علوش / النشرة – لم تكن زيارتي إلى موسكو للمشاركة في دورة تدريبية صحافية مع وكالة “سبوتنيك” فرصة مهنيّة واجتماعية فقط، بل أيضاً مراقبة ميدانية لتحول اقتصادي ظهر بوضوح في سلوك الأسواق، إذ يمكن بوضوح ملاحظة أن انتُظر أن يكون انكماشاً عميقاً بفعل العقوبات الغربية تطوّر، على أرض الواقع، إلى ديناميكية إنتاج محلية مرتفعة، في قطاع الألبان والحليب على سبيل المثال لا الحصر.
هذا التحوّل لم يكن صدفة. فمنذ حظر واردات الأغذية تبنّت روسيا سياسات استراتيجيّة جديدة، فدعمت القطاع الزراعي بقروض وتعويضات وبرامج استثماريّة، والنتائج باتت واضحة في أرقام الإنتاج، حيث يدور الإنتاج السنوي من الحليب الخام حول 33 إلى 34 مليون طن في السنوات الماضية مع ارتفاع طفيف في 2024، وتصاعد معدل الإكتفاء الذاتي الى ما يقارب 88 بالمئة في بعض أصناف الألبان، وتراجع الواردات بما يقارب الثلث مقارنة بما قبل عام 2014، وتحقق نمو ملحوظ في صناعة الأجبان والزبدة، مع افتتاح مصانع جديدة وزيادة استثمارات المزارع الكبرى، ما وفّر للسوق المحلي ما يحتاجه وخفّف الاعتماد على الواردات الغربية.
قطاع الألبان حظي بمكانة خاصة لأنه يرتبط مباشرة بالحياة اليومية للمواطنين. استثمرت الدولة في تحديث مزارع الألبان وتطوير مرافق تصنيع وتجهيز حديثة. والنتيجة أن منتجات مثل الأجبان شهدت ارتفاعاً ملحوظاً في نسب الإنتاج، وأضيفت مصانع جديدة رفعت القدرة المحلية لسد حاجات السوق.
بحسب المعنيين، هناك عاملان رئيسيان ساهما في هذا النجاح، أولاً، الدعم الحكومي المباشر الذي شمل قروضاً ميسّرة وحوافز ضريبيّة، وثانياً انسحاب الشركات الغربية من السوق، ما فتح المجال أمام الشركات المحلية لتوسيع حصصها وتعزيز حضورها. كما أن قيود الاستيراد دفعت المصنعين للاستثمار في بدائل وتقنيات جديدة لإنتاج أصناف كانت تُستورد سابقاً.
الخلاصة التي خرجت بها من التجربة أنّ العقوبات، التي كان يفترض أن تكون وسيلة ضغط خانقة، تحوّلت في قطاع الألبان والحليب إلى حافز لبناء نموذج إنتاج محلي أكثر استقلاليّة. لم يكن الأمر خالياً من التحدّيات، لكنه قدّم درساً عملياً في كيفية تحويل التهديد إلى فرصة، وهو يشبه ما حصل في إيران أيضاً بعد العقوبات، ويُفترض أن ينتقل الى دول عدة منها لبنان الذي يعاني من الفجوة الكبيرة بين حجم الصادرات والواردات، ومن أزمة اقتصادية خانقة كان يُفترض أن تجعله يتجه نحو تعزيز الانتاج المحلي، والاعتماد على الصناعات اللداخلية بعد تعزيز وضعها الضريبي وزيادة التشجيع على الاستثمار فيها.
من اللحظة الأولى للزيارة، بدت موسكو مدينة مختلفة نموذجية، جميلة، مرتبة، خضراء، فيها مساحات عامة شاسعة وحدائق مفتوحة للناس، وعلى عكس الانطباع النمطي عن مدينة صاخبة وباردة، كان المشهد مريحاً وهادئاً. الشوارع نظيفة، التنظيم واضح، والناس الذين التقيتهم ودودون وهادئون، يرحبون بالغرباء بسهولة. الأهم أن إحساس الأمن والأمان كان حاضراً في كل مكان، من محطات المترو المتشعبة إلى الساحات العامة، ما يعكس قدرة المدينة على الجمع بين صخب العاصمة وحياة يوميّة مستقرة.
أما بالنسبة لي كصحافي، فالتجربة لم تقتصر على التعرّف إلى تقنيات العمل الإعلامي داخل “سبوتنيك”، بل كانت مناسبة لرؤية كيف يمكن للاقتصاد أن يعيد صياغة نفسه تحت الضغط، وكيف يتفاعل الشعب مع الخطط الاستراتيجية لبناء غد أفضل.





