زيارة طالما عنّت على البال، وطال إنتظارها إلى أن سنحت الأحوال ،فحلّّ الموعد وكان الإبرار بالوعد،فإنطلقتُُ برفقة الكاهن الصديق،والذي تربطني به صداقة قديمة ومُتجرّدة ،منذ زمن الفتوّة الشبابية، وأيام النشاطات الرسولية،في فرسان وطلائع العذراء في الأبرشية، إلى أن أصبح إكليرىكيا ثم كاهنا وخادما لرعيتّنا،ألا وهو الخوري بيار الخوري،وهكذا وبلهفة الوفاء وبشغف اللقاء ،قصدنا بإندفاع وحماسة، عنّايا أرض القداسة ،لزيارة الأب الموجّه والمرشد والصديق مارون غاريوس، ذلك الراهب القدوة،الذي طبع بصماته على مسيرتنا الإيمانية ، وأنار دروبنا إلى الحياة المسيحية.
وسلكنا الطريق الجبلية، التي تُشكّل لوحة جمالية،وسط ضياعنا الواسعة ،ومناظرها الرائعة،ونحن على مفترق منتصف ايلول،وهنالك داهمنا الضباب، الذي وإن حجب الرؤيا ، لكنه ما إستطاع أن يحجب أروع الحكايات ،وما تمكّن من أن يغطّي أجمل الذكريات،وما إن بلغنا ساحة مار مارون عنايا ،حتى دلفنا إلى ضريح القديس شربل،مصلّين وخاشعين فنلنا البركة قبل أن نتوجّه إلى حرم الدير ، لنلتقي رجل الإيمان والبركه.
وللمرّة الأولى نتكرّّم بولوج هذا المكان الهادئ حيث السكينة والرهبة ،تُطلّ من الأبواب وترتسم على الأعتاب، وتعفّ من الحجارة العتيقة لتتناغم مع تراث هذه الأديرة العريقة. فسيطرت علينا لغة الهمس ونحن ندخل تلك العلّية الديريّة، التي غدت مع “الأبونا مارون”صومعة صلاته وواحة راحته ومضجع أوجاعه ومسكن وحدته…،وهاهو يجلس متأمّلا، وإذا به يتحامل على جسده المتعب،ليقف مستقبلا،وصدحت”الأهلا”من صوتٍ أرهقتْه سنوات العمر،ولكنها لا ولم ترهق منه معالم الفكر التي تفوح كما من الورود رائحة العطر،وارتسمت الإبتسامة المعهودة على ذلك الوجه البهي ،كأنها وَمَض مُشِعّ من النور الإلهي.
وبادر الى الشكر والترحاب ،سائلا ومطمئنّا على الأهل والأصحاب، معتبرا أن هذه الزيارة تحمل إليه أجمل هدية، وجعلته يشعر أنه ليس من الوجوه المنسية.كيف ذلك !! ونحن نعتبر أنه من الوجوه التي تتباهى بها الكلمات، فشرعت أهديه كتابي “وجوه وكلمات” وله بين ضلوعه صولات وجولات، ناهيك عن صور توثّق أروع ألأوقات، كواحدة مع الشاعر الكبير سعيد عقل والأب المؤرّخ بولس ضاهر ومعنا كمسؤولين عن فرسان العذراء في تلك الآونة ،وأخرى معنا ومع وجوه غالية ومنها المرشد العام المميز والمؤسّس لرابطة الأخويات في لبنان الأب اليسوعي جورج خوري…. “ورزقالله على الأيام الحلوة” قالها، ثم قرأ إهدائي له وقد مهرته بسطرين معبّرين “إلى مرشدنا الروحي في الأيام الصعبة،وموجهّنا في الزمن الجميل ،ورفيق دروبنا الرسولية الأب الصديق مارون غاريوس “.
ورحنا نُقبِّل وجنة الأيام الآفلة،ونسرح في بستان الذكريات الحافلة، متنفّسين الٱهات من صميم الأعماق،ومسافرين على أجنحة الماضي إلى أبعد الآفاق،حاملين مشاعر الحنين حتى ولو من دنيا الأحلام ،وجالسين على ضفاف تلك الأيام، متهادين بين الإبتسامة والدمعة في حضرة الراهب الوقور والطيّّب السمعة.وخطر على بالي ، أن أدوّن هذا اللقاء على مفكّرة أيامي،فأكحّل قلمي بمداد الأحاسيس،وأجعل أسطري ترتدي نبض الوفاء وتتدثّر بلون النقاء. وباشرت أسجّل بعض ما يتسلّل إلى مخيّلّتي من لدن سيرته ومسيرته، هو الذي ولد وترعرع في بلدة “عبود-مزرعة السيّاد” من أعمال جرد بلاد جبيل،غارفا مزاياه من صلابة الصخور ونقاوة الثلوج وعراقة الأشجار وسموّ الجبال…وسط بيئة عائلية تغمرها المشاعر الإنسانية، وتفيض بالحياة الإيمانية.
وبين أربعة أشقّاء وثلاث شقيقات ،وفي كنف والدين فاضلين هما إلياس ومريم غاريوس،وقد ربّيا عائلتهما على المحبة والإيمان والتقوى، لتُنبت تلك التربية دعوتين في الرهبنة اللبنانية المارونية أي الأب مارون وشقيقته الأخت تريز.حيث وفي٢١ أيار ١٩٧٢ إنطلقت مسيرته بسيامته كاهنا،وهو يتفانى بين الحياة الرهبانية والخدمة الرعوية في زمن كانت تعاني فيه منطقتنا من نقص في عدد الكهنة .
فمن أنطش جبيل أي دير مار يوحنا مرقس والذي تولّى رئاسته لفترة زمنية ،إلى دير سيدة المعونات وكمدير للمستشفى بعد أن خضع لدورة تدريبية في بروكسيل،الى دير القديسة تريزيا في طورزيا، فإلى دير مار مارون عنايا ضريح القديس شربل.. ،وخدم على مدى سبعة وأربعين عاما ،رعايا منها مار يوحنا مرقس،مار تقلا قرطبون ،مار جرجس جبيل،،مار ماما حبوب،مارعبدا جاج،مار إسطفان لحفد،مار ضوميط مشمش ،السيدة سقي رشميا….حيث كان يقوم مثلا بخدمة أربع رعايا في آن واحد،مُتنقّلا في سيارته “المرسيدس الكحلية” والتي كانت تتعب وهو لا يتعب،وكما العصفور متنقلّا بين الأغصان في الأفراح وفي الأحزان،ولا تعيقه مصاعب أو مسافات، فإذا تراكمت الثلوج مثلا يركن سيارته وينتعل “جزمة” ويتابع سيرا على الأقدام كي لا يتخلّف أو يتأخّر عن واجباته الرعوية.
وكيف لنا أن ننسى إهتمامه بعائلة الأخويات، يوم عّيّن مرشدا لها في أبرشية جبيل وعلى مدى سنوات،من هنا إنطلقت معرفتنا به، ومنذ أواسط الثمانينات من القرن الماضي ,حين كنا في اللجنة الإقليمية للفرسان،وتوطدّت العلاقة بيننا , ففي العائلة وقف إلى جانبنا خاصة يوم وفاة والدنا وهو في ريعانه.
وفي رعيتنا أنقذنا من هجمة البدع عبر السهرات الإنجيلية الأسبوعية،يوم كان خادم رعيتنا آنذاك كاهنا مُسنّا قد أنهكه العمر،ولما أمتنع عن الإحتفال بتكريس فرع فرسان رعيتنا في نادي البلدة، أنقذنا المرشد الأب مارون وبفطنته تابعنا الإحتفال.أما مع الخوري بيار أيضا فكانت تربطه علاقة بنوية وصداقة عائلية ،وإستذكر الخوري بيار يوم إحتفل” أبونا مارون” بالقداس على نية العائلة وفي منزلها ، مواجها رداءة الطقس حينها.وقد صودف أن باشر ذلك الراهب الورِع خدمته الرعوية مع إندلاع الحرب الأهلية ،حيث ساند وساعد المرضى والمُعوَزين والمنكوبين ،وعمل على تأمين المساعدات الإنسانية لهم.
وما كان “الأبونا مارون” راهبا دَيرِيّا وخادما رعائيا فحسب، بل كان حلّالاً للمشاكل، عبر إبتكار الحلول بفطنة وذكاء ورويّة ،مقتديا في كل ذلك بالمسيح ومتشبّها على الطريقة اللبنانية ب”أبو ملحم”، وتصلح تلك الأخبار والنوادر والأعمال، لكي تبوّب في كتاب تحت عنوان “التربية الدينية”، والتي قد تضاهي كتاب التربية المدنية.
في رعيّة حبوب مثلا، إبتكر فكرة غرس شجرة من قِبَل كل عائلة في الرعية ،عندما تحظى بمولود جديد ، والإخضرار الذي يعانق اليوم الطرقات الداخلية يشهد على بُعد رؤيته وسُموّ خدمته.فإبّان عرس في إحدى رعاياه ،سُرقت”ضرّابة” الجرس من قبّة الكنيسة،ورفض العريس أن تُجرى مراسم الإكليل من دون رنّات الجرس،فما كان من “الأبونا مارون” إلا أن قصد رعيّة مجاورة وإستعار “ضرّابة “جرسها ولفترة ساعتين،وهكذا تجاوز “القطوع”.
وبينما كان يوما يحتفل بالذبيحة الإلهية،إقتحم حرم الكنيسة ،أحد المشاكسين من أبناء الرعية،وراح وأثناء القدّاس”يُفقّي”البزورات ويرمي على الأرض،وما إن رمقه حتى راح يتضرّع إلى شفيع الرعية كي يمنحه نعمة الصبر، وفي الختام تقدّم الأبونا مارون من ذلك الشخص الذي قال “لقد أرسلني بعضهم كي أفتعل مشكلا معك يا أبونا، وقد يستتبع ذلك نقلك من الرعية، لكنك غلبتني بصلاتك وصمتك…”،وأضحى هذا الرجل بعدها على غرار مار بولس قيدوم المؤمنين في المناسبات.
والجلسة مع الأب مارون غاريوس،تجعلنا نجني من خبرته حِكَما وعِبَرا، فهو يُشبّه الكاهن في الرعية كما الصخرة بين الأمواج،والتي تبقى صامدة وتزيدها الامواج التي تلاطمها نعومة،والكاهن الذي تلاطمه الأقاويل فما عليه إلا أن يسمع ويرى من دون الإنجرار إليها وهذا ما يزيده خبرة، فلا تتعثّر رسالته أو تتغبّّر خدمته.وشعرنا ونحن في أحضان أروع الأوقات وكأنها لحظات،حيث علامات الرضى والإرتياح، ترتسم على محيّاه وهو الراعي الصالح الذي يعرف رعاياه كما تعرفه رعاياه،وهو ناذر الفقر والعفّة والطاعة،والمتواضع الذي ما تباهى بأعلى الشهادات مكتفيا بشهادة الحياة. وقد حمل صليبا ليس من ذهب، والرب هو الذي يكافئ من كان يستحق الرتب.ووصلنا إلى ميناء ختام الزيارة،وتسمّرنا أمام الصورة التذكارية، تتوسّطّنا تلك القامة الرهبانية،والهامة التقيّة والعلامة الإنسانية،متزوّدّين بالوفاء عنوانا، وبالمحبة غذاء وبالإيمان ذخيرة. سائلين الربّ أن يعطينا دائما كهنة قدّيسين.
غانم إسطفان عاصي
عنايا وحصارات في ٢٠-أيلول





