من النظرة الدونية إلى القيمة الاجتماعية: المهن الحرفية بوابة كرامة وفرص عمل. د. بيار الخوري

بيروت يا بيروت

لعقود طويلة، شكّلت العمالة السورية العمود الفقري للمهن الحرفية في لبنان. فالمباني التي ارتفعت في المدن، والبيوت التي شُيّدت في القرى، والطرقات التي صارت جزءاً من حياة الناس اليومية، كانت في معظمها ثمرة جهد عمال سوريين ملأوا الفراغ الذي تركه اللبنانيون. الأسباب لم تكن فقط مرتبطة بتوافر هذه اليد العاملة وبكلفتها المنخفضة، بل أيضاً بثقافة لبنانية راسخة تعتبر المهن الحرفية أعمالاً ثانوية لا تليق بشبابها، خصوصاً في المدن حيث التوجه إلى الجامعة كان يبدو الطريق الوحيد “المشرّف”.

هكذا، جرى التعامل مع السباك والكهربائي والدهّان وعامل البناء وكأنهم في مرتبة اجتماعية أدنى، فيما الواقع أن المجتمع لم يكن ليستقيم من دونهم.

لكن المشهد اليوم آخذ في التغير. فمع العودة المتزايدة للعمال السوريين إلى بلادهم، بدأت القطاعات التي كانت تعتمد عليهم بشكل شبه كامل تواجه فراغاً متزايداً.

غير أن هذا الفراغ لا يجب أن يُقرأ كتهديد بل كفرصة. إنه باب يمكن أن يُفتح أمام الشباب اللبناني ليعيدوا الإمساك بمهن لم تكن يوماً بلا قيمة، بل كانت الأساس الذي تقوم عليه دورة الاقتصاد اليومي. فالشاب الذي يتقن السباكة أو الكهرباء، سواء كان من أبناء القرى أو المدن، قادر أن يضمن لنفسه دخلاً سريعاً وثابتاً، قد يفوق في كثير من الأحيان ما يجنيه خريج جامعي أمضى سنوات طويلة من عمره في الدراسة ثم اصطدم بجدار البطالة أو الحاجة إلى الهجرة.

العبرة ليست فقط في التدريب، بل في إعادة النظر الثقافية. المجتمع بحاجة إلى مصالحة مع فكرة أن المهن الحرفية ليست أعمالاً دنيا، بل هي من أكثر القطاعات حيوية.

في ألمانيا مثلاً، لا ينظر أحد إلى الكهربائي أو الميكانيكي باعتباره أقل شأناً من المهندس. على العكس، يحظى هؤلاء باحترام واسع، لأن النظام التعليمي هناك يقوم على الدمج بين الدراسة والتدريب المهني، بحيث يتخرج الشاب من المدرسة وهو مجهز بخبرة عملية تعطيه مكانة حقيقية في السوق.

وفي كندا، يخضع السباكون والكهربائيون لبرامج تدريب رسمية تمنحهم تراخيص عمل معتمدة، ما يجعلهم يتمتعون بأجور مستقرة وحماية قانونية.

أما في سويسرا وأستراليا، فقد تحولت المهن الحرفية إلى خيار طبيعي للشباب، وأصبحت جزءاً من خطط التنمية الاقتصادية. حتى في الخليج العربي، حيث اعتاد الناس على استقدام العمالة الأجنبية، بدأت الحكومات تضع برامج خاصة لتأهيل مواطنيها على هذه المهن، بعدما أدركت أن الاعتماد على الخارج لا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية.

لبنان يمكن أن يتعلم من هذه التجارب، لا فقط عبر إطلاق برامج تدريبية، بل أيضاً من خلال بناء أطر مؤسساتية حقيقية تنظّم هذه المهن وتعطيها قيمة اجتماعية. تأسيس نقابات متخصصة لكل مهنة قد يكون مدخلاً أساسياً. لنفكر أو كان للسباك نقابة تمنحه بطاقة رسمية وتؤمّن له حماية اجتماعية، وأن للكهربائي نقابة تضع شروطاً للتدريب والتراخيص وتحدد معايير للسلامة، وأن لعامل البناء مظلة نقابية ترفع من شأن مهنته وتوفّر له تأميناً وضماناً. حينها، لن يبقى هؤلاء عمالاً يعملون في الظل أو على هامش النظام الاقتصادي، بل يصبحون جزءاً معترفاً به من النسيج الاجتماعي. النقابة لا تعني فقط الحماية، بل تعني أيضاً رفع القيمة المعنوية، وإعطاء المهنة احتراماً يجعل الأهل يشجعون أبناءهم على الدخول إليها بدلاً من الترفع عنها.

عودة قسم من العمالة السورية قد تكون اللحظة المناسبة لإعادة رسم هذا الطريق. الفراغ الذي بدأ يتشكل وسيتسع في قطاع البناء أو الصيانة يمكن أن يملأه شباب لبنانيون إذا ما أعيدت صياغة الثقافة العامة من جهة، وأُنشئت مسارات تدريب منظمة من جهة أخرى. البلدات والقرى قادرة أن تكون حاضنة لهذه المبادرات، فهي المستفيد الأول عندما يجد شبابها فرص عمل مستقرة، وعندما تتحول اليد اللبنانية إلى رافعة اقتصادية.

وعندها، لن يكون الحديث عن مهن ثانوية أو بديلة، بل عن أعمدة أساسية يستند إليها الاقتصاد الوطني.إن اللحظة الراهنة تحمل ما يكفي من التحديات، لكنها تحمل أيضاً فرصة نادرة. وإذا لم نغتنمها، فإن لبنان سيبقى عالقاً بين بطالة شبابه الجامعي من جهة، واستيراد عمالة غير مستقرة من جهة أخرى. أما إذا استثمرنا فيها، فقد تتحول المهن الحرفية إلى مدخل لتجديد الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وإلى باب رزق كريم يعيد للقرى والمدن بعضاً من حيويتها المفقودة.