بيروت يا بيروت
تتأرجح النظرة إلى إيلون ماسك بين طرفين متباعدين: فهناك من يراه مجرد ملياردير آخر في نادي الأثرياء الذين صعدوا على أكتاف الرأسمالية الحديثة، يشتري بما يملك من أموال وموارد طريقه إلى الأضواء.وفي المقابل، هناك من يراه عبقريًا استثنائيًا، مهووسًا بفكرة المستقبل، استطاع أن يحوّل الحلم إلى منظومة صناعات كبرى تتجاوز حدود الأرض إلى فضاءات الكواكب.
هذه الإشكالية ليست مجرد جدل حول شخص واحد، بل نافذة لفهم العلاقة القديمة والمعقدة بين الشهادة، والعبقرية، ومعايير النجاح في التاريخ البشري.
إن الذين يختزلون النجاح في تراكم الثروة ينظرون إلى ماسك بعين الشك، معتبرين أن المال هو الذي يفتح له الأبواب، وأن مؤسساته ما هي إلا واجهات مدعومة بتدفقات استثمارية هائلة.
لكن الوجه الآخر للقصة يكشف أن الرجل لم ينتظر شهادة مرموقة لتمنحه رخصة الحلم. لم يتقيد بمسار أكاديمي خطّي يفرض عليه أن ينجز أطروحاته في المختبر أو يلتزم بمسار وظيفي مرسوم.
لقد خرج من الإطار الجامعي سريعًا، وقرر أن يضع رهانه على الخيال الممزوج بالجرأة، وهو رهان خسره كثيرون، لكنه نجح في تحويله إلى صناعة جديدة للسيارات، والطاقة، والفضاء.
ولعل هذه المفارقة تطرح سؤالًا أوسع: هل كانت الجامعة يومًا الشرط الحاسم لولادة العظماء؟ التاريخ يجيب بالنفي. تولستوي كتب ما هزّ الوعي الإنساني دون أن يكمل دراسته الجامعية. جبران خليل جبران، القادم من بيئة هامشية في لبنان، لم يكد يعرف شيئًا عن المناهج النظامية، لكنه حمل قلمه وصاغ به أدبًا صار لغة عالمية.
بيتهوفن لم يتدرج في المعاهد الرسمية ليصبح سيد السيمفونيات، وفان غوخ لم يكن طالبًا متفوقًا في كليات الفنون قبل أن يرسم لوحاته التي لا تزال تهزّ الأرواح حتى اليوم.
بل إن أسماء بارزة في العلم ذاته خرجت من خارج النسق الجامعي الصارم: إديسون كان شبه أمي من حيث التعليم النظامي، والأخوان رايت لم يدخلا كلية هندسة، ومع ذلك وضعا أساس الطيران الحديث.
ومع دخولنا العصر الرقمي، يتكرر الدرس بأشكال أكثر وضوحًا. ستيف جوبز، بيل غيتس، مارك زوكربيرغ… كلهم تركوا الجامعات خلفهم، واختاروا طريق المغامرة والابتكار المباشر.
لم يكن همّهم الحصول على اعتراف من مؤسسة أكاديمية، بل على اعتراف الواقع نفسه بما يخلقونه من أثر. ومع ذلك لم يتوقفوا عن التعلم، بل جسّدوا فكرة أن المعرفة ليست حكرًا على جدران الجامعة، بل هي مشروع حياة مفتوح، يُبنى بالقراءة المستمرة والتجربة والفشل والبدء من جديد.
لكن من الخطأ أن نُسقط هذه الأمثلة على كل الحقول. فهناك ميادين لا يمكن خوضها دون شهادة، لأن الشهادة هنا ليست ورقًا بل معيارًا للثقة وضمانًا لحياة الناس. الطبيب لا يستطيع أن يمارس مهنته دون سنوات من الدراسة والاختبارات، والمهندس الذي يبني الجسور لا بد أن يمر بمسار أكاديمي صارم لتأمين سلامة الأرواح، والمحامي الذي يرافع باسم العدالة يحتاج إلى منظومة قانونية منظمة.
هنا تصبح الجامعة شرطًا أخلاقيًا ومجتمعيًا، بل ممرًا إلزاميًا يفرضه النظام والنقابة لحماية المجتمع. كما أن البحث العلمي المستقبلي لا ينهض بلا إطار جامعي يوفر مختبرات، بيئات منهجية، شبكات تمويل، ومناخًا من التفكير الجماعي المنظم.
غير أن ما عدا ذلك، أي في الفنون، والأدب، وريادة الأعمال، والتقنيات الناشئة، لم تكن الشهادة يومًا معيارًا مطلقًا. قد تكون نافذة للمعرفة، لكنها ليست الشرط الضروري للإبداع.
إن القيمة الحقيقية تكمن في القدرة على تحويل الفكرة إلى أثر، وفي التجرؤ على المغامرة، وفي التزام التعلم الدائم بعيدًا عن الأطر التقليدية. في عالمنا اليوم، وقد صار الذكاء الاصطناعي شريكًا في المعرفة، والريادة الرقمية هي المحرّك الأكبر للاقتصاد، بات واضحًا أن الشهادة، مهما علت، لم تعد سوى أحد المفاتيح الصغيرة، بينما الأبواب الكبرى تُفتح بالشغف، بالفضول، وبإصرار لا يعرف التوقف.





