مقدمة
لطالما ارتبط مفهوم “العملة القوية” بمستوى تداولها العالمي، ونسبة اعتمادها في التجارة الدولية واحتياطات البنوك المركزية. سيطر الدولار الأميركي على هذا التعريف لعقود، من خلال قوة اقتصاده، عمق أسواقه المالية، وتحكّمه بالبنية التحتية للنظام النقدي العالمي. لكن هذا المفهوم يدخل اليوم مرحلة تحوّل جذري.
في عالم تتسارع فيه التحولات التكنولوجية، وتتعقد فيه الجغرافيا السياسية، لم يعد كافيًا أن تكون العملة الأكثر استخدامًا؛ بل بات الأهم أن تنتمي إلى نظام نقدي مرن، سيادي، وآمن. العملة اليوم لم تعد ورقة نقدية أو حتى قيمة رقمية، بل تحوّلت إلى منصة شاملة تعكس مدى قدرة الدولة على السيطرة على بياناتها، تعاملاتها، وهياكلها التكنولوجية.
تهدف هذه الورقة إلى إعادة تعريف القوة النقدية في القرن الحادي والعشرين، من خلال ثلاثة مرتكزات رئيسية: مرونة النظام، الاستقلال الرقمي، والسيادة على البنية التحتية المالية، مع تقديم توصيات عملية لصنّاع القرار في الدول الصاعدة والاقتصادات الناشئة.
أولًا: مرونة النظام النقدي: العملة كاستجابة ديناميكية
في الاقتصاد الكلاسيكي، كانت قوة العملة تُقاس بثباتها، وانضباط سياستها النقدية، ومدى قدرة البنك المركزي على ضبط التضخم أو امتصاص الصدمات. اليوم، لم تعد هذه المعايير كافية. فالنظام النقدي المعاصر يواجه تحديات من نوع مختلف: أزمات مالية متسارعة، اضطرابات سلاسل التوريد، وحروب تكنولوجية عابرة للحدود.
في هذا السياق، تبرز الحاجة إلى أنظمة نقدية مرنة، قادرة على التحوّل، البرمجة، والتحكّم الدقيق في ضخ السيولة. لم تعد الفائدة وحدها أداة كافية. بل بات من الضروري امتلاك أدوات رقمية تتيح للبنك المركزي “برمجة” الأموال المرسلة إلى الأفراد أو الشركات، وتوجيهها نحو أهداف محددة زمنيًا وجغرافيًا وقطاعيًا.
نموذج اليوان الرقمي في الصين يوضح هذا التوجه. فبخلاف الدولار، يمكن برمجة اليوان الرقمي ليُستخدم فقط في قطاعات محددة (مثل الأغذية أو التعليم) أو داخل مناطق جغرافية معينة، أو حتى ليُبطل نفسه بعد مدة زمنية محددة، ما يفتح الباب لسياسات نقدية أكثر دقة وفاعلية.
ثانيًا: الاستقلال الرقمي: من إصدار العملة إلى امتلاك شبكتها
تصدر العديد من الدول عملاتها الوطنية، لكن معظمها لا يملك البيئة الرقمية التي تتحرك فيها تلك العملات. فعلى سبيل المثال، أكثر من 90% من المدفوعات الإلكترونية حول العالم تمر عبر أنظمة تسيطر عليها شركات أميركية (Visa، Mastercard، SWIFT). وهذا يُفرغ “السيادة النقدية” من مضمونها، ويجعل حتى العملات الوطنية رهينة لبنية خارجية يمكن تعطيلها أو استخدامها كورقة ضغط.
في المقابل، بدأنا نشهد مشاريع تهدف إلى تحقيق الاستقلال الرقمي النقدي. الصين أنشأت نظام المدفوعات CIPS كبديل جزئي لـ SWIFT. الإمارات والسعودية والصين وتايلاند طوّرت مشروع mBridge لمدفوعات عابرة للحدود تعتمد على عملات رقمية مركزية. روسيا تسرّع خطواتها نحو اعتماد “الروبل الرقمي” بعد العقوبات الغربية.
كل هذه المبادرات تعكس إدراكًا بأن العملة لا يمكن أن تكون قوية في نظام تتحكم فيه قوى أجنبية. الاستقلال الرقمي لم يعد خيارًا تقنيًا، بل مسألة سيادة وطنية.
ثالثًا: السيادة على البنى التحتية: حين تصبح العملة سلاحًا أو درعًا
في عالم مفرط في الترابط، أصبحت البنية التحتية المالية جزءًا لا يتجزأ من منظومة الأمن القومي. قدرة الدولة على التحكّم في نظام الدفع، تسجيل الأصول، إصدار الائتمان، ومعالجة المدفوعات عبر الحدود، تعادل في أهميتها امتلاك جيش أو ترسانة نووية.
عندما منعت واشنطن إيران من استخدام نظام SWIFT، وعندما جمدت حسابات روسيا في الخارج، فهم العالم الرسالة: العملة لم تعد مجرد أداة اقتصادية، بل سلاح جيوسياسي.
الدول الصاعدة بدأت تستوعب هذا الواقع. ولهذا نرى اتجاهًا عالميًا نحو بناء أنظمة دفع وطنية، وتطوير سلاسل كتل سيادية (sovereign blockchains)، وتعزيز الأمن السيبراني المالي. كل ذلك يصب في اتجاه واحد: تحصين العملة عبر تأمين البنية التي تتحرك فيها.
رابعًا: التوصيات الاستراتيجية
بناءً على التحليل أعلاه، على صناع القرار في الدول الصاعدة والاقتصادات الناشئة ما يلي:
-الاستثمار في العملة الرقمية السيادية: لا كأداة للمنافسة مع العملات الكبرى فقط، بل كوسيلة لتطوير سياسات نقدية دقيقة ومستجيبة للواقع المحلي.
-بناء بنى تحتية وطنية للمدفوعات والتسويات: سواء عبر شراكات إقليمية أو تطوير داخلي، على الدول امتلاك أنظمتها الخاصة للمدفوعات والمعاملات الرقمية.
-فصل البنية المالية عن الاعتماد على الشركات الأجنبية: عبر تشجيع الشركات الوطنية في مجال التكنولوجيا المالية، وتقييد الاعتماد على مزودي البنية التحتية من خارج المنظومة.
-إدراج السيادة الرقمية ضمن الاستراتيجية الأمنية الوطنية: المؤسسات النقدية يجب أن تعمل جنبًا إلى جنب مع الجهات السيبرانية والدفاعية لتأمين شبكة العمليات النقدية.
-بناء مراكز بحث وتطوير في الاقتصاد الرقمي النقدي: الجامعات ومراكز الفكر يجب أن تنخرط في تطوير نماذج جديدة للعملة والسيادة النقدية التكنولوجية.
خاتمة: من العملة كرمز، إلى العملة كبنية تحتية سيادية
لقد انتهى عصر العملة التي تُقاس فقط بكمية الدولارات أو اليوروهات المتداولة في السوق. نحن ندخل زمنًا تُقاس فيه قوة العملة بمقدار ما تستطيع الدولة أن تُسيّرها ضمن بيئة تسيطر عليها بالكامل: من الخادم (السيرفر) إلى المحفظة، من البرمجة إلى السيادة.
الدول التي تستثمر اليوم في البنى النقدية السيادية، لن تضمن فقط استقرارها المالي، بل سترسّخ مكانتها الجيوسياسية في عالم تُعاد فيه صياغة قواعد القوة والهيمنة.
المراجع
International Monetary Fund (2023). Central Bank Digital Currencies for Cross-Border Payments
Bank for International Settlements (2024). Project mBridge Report
People’s Bank of China (2023). Progress of Research & Development of E-CNY
SWIFT (2023). The Future of Cross-Border Payments
World Economic Forum (2024). Digital Currency Governance Consortium White Paper
Center for Strategic and International Studies (2024). Sovereign Financial Infrastructure in a Multipolar World




