الملف الإستراتيجي
إعداد : زهير عساف
مدخل: ما بعد الردع، نحو أمن إنساني مستدام
منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، لم تنفك الأسلحة النووية عن التلويح بظلها الكثيف فوق المشهد الدولي، مكرّسة بذلك منطق الردع بدلًا من منطق التعاون. فرغم المعاهدات الدولية العديدة، لا تزال الترسانات النووية تُحدّث باستمرار، ويُعاد إنتاج سباقات التسلّح بمسوغات جديدة. في المقابل، تقدّم التنمية المستدامة بديلاً متكاملاً لتصوّر الأمن؛ فهي لا ترى في القوة العسكرية ضمانًا للاستقرار، بل في الاستثمار بالإنسان والعدالة والبيئة سبيلاً إلى سلام دائم. من هنا، لا يمكن لنزع السلاح النووي أن يتحقق إلا من خلال إعادة ترتيب أولويات العالم بما يخدم كرامة الإنسان ويحصّن مستقبل البشرية.
البعد التنموي للسلاح النووي: تقويض للأهداف الأممية
تمثل الأسلحة النووية تحديًا مباشرًا لأهداف التنمية المستدامة التي وضعتها الأمم المتحدة ضمن أجندة 2030. فالتأثيرات الصحية الناتجة عن التلوث الإشعاعي تمثل تهديدًا خطيرًا للصحة العامة، خاصة في المناطق التي شهدت تجارب نووية أو تقع في محيط منشآت نووية مهددة. الأمراض المزمنة، التشوهات الوراثية، واضطرابات النمو ليست سوى بعض من آثار هذه الكارثة الصامتة.
أما على المستوى المناخي، فإن احتمالات اندلاع حرب نووية شاملة قد تؤدي إلى ما يُعرف بـ”الشتاء النووي”، حيث تنخفض درجات الحرارة عالميًا وتختل أنماط المطر، ما يعصف بالزراعة والأمن الغذائي. وهنا لا يعود الخطر مقتصرًا على الدول المتصارعة، بل يشمل الإنسانية جمعاء.
وعلى صعيد النظام الدولي، فإن احتكار عدد محدود من الدول للأسلحة النووية يكرّس اختلالًا في موازين القوى، ويقوض مبدأ المساواة بين الدول، ما يُضعف فعالية المنظومة الدولية في حل النزاعات بالطرق السلمية ويقود إلى تشكك متبادل يعيق التفاهمات طويلة الأمد.
اقتصاد الرعب: حين تُهدر الموارد على التدمير
تُظهر الإحصاءات أن ما يُنفق سنويًا على البرامج النووية يتجاوز في بعض الأحيان الميزانيات الوطنية المخصّصة للتعليم أو الصحة. ورغم تزايد الأزمات الاجتماعية والبيئية في العالم، لا تزال الدول الكبرى تخصص موارد ضخمة لتحديث ترساناتها النووية، في توجه يعكس خللاً عميقًا في أولويات السياسات العامة. إن ضخامة هذا الإنفاق لا تقتصر على البعد المالي، بل تشمل ما يُخلّفه من تبعات سياسية وإنسانية تعمّق الفجوة بين الدول الغنية والفقيرة، وتكرّس نظامًا عالميًا يُقصي الملايين من فرص التنمية والأمن.
التنمية كأداة لنزع السلاح: من الوقاية إلى الشراكة
إن مقاربة التنمية المستدامة توفّر أدوات وقائية فعالة ضد النزاعات، بما في ذلك النزاعات ذات الطابع النووي. فالاستثمار في التعليم، وخلق فرص عمل عادلة، وتمكين الفئات المهمشة، كلها عوامل تؤسس لمجتمعات مستقرة وأقل عرضة للعنف السياسي أو التطرّف. كما أن دعم الاتفاقيات الدولية الخاصة بنزع السلاح، وتفعيل آليات المراقبة والامتثال، يعززان مصداقية النظام الدولي ويشجعان الدول على الالتزام بالتعهدات.
في الوقت ذاته، فإن تعزيز التعاون التنموي، خاصة في مجالات حيوية كالأمن الغذائي، والطاقة المتجددة، والمياه، يُسهم في تحويل العلاقات الدولية من علاقات تنافسية إلى شراكات قائمة على المصالح المتبادلة والثقة. وفي مثل هذا المناخ، تغدو الحاجة إلى الردع النووي أقل منطقية، لأن العلاقات تُبنى على التعاون لا التهديد.
من الدبلوماسية إلى الشفافية: آليات ممكنة
لا يمكن التقليل من أهمية الدبلوماسية والوساطة في إدارة الأزمات النووية، كما أثبتت تجارب سابقة مثل أزمة الصواريخ الكوبية في ستينيات القرن الماضي، والتي كادت أن تقود العالم إلى كارثة نووية لولا التدخلات السياسية الرصينة. تلعب المنظمات الدولية، وخصوصًا الأمم المتحدة، دورًا محوريًا في إتاحة منابر التفاوض وتخفيف التوترات، شريطة أن تحظى بدعم فعلي من القوى الفاعلة.
أما المناطق الخالية من الأسلحة النووية، فهي تمثل مثالاً عمليًا على كيف يمكن لقرارات جماعية أن تحدّ من التسلّح، وتعزز الاستقرار الإقليمي، كما في أمريكا اللاتينية وإفريقيا. ويمثّل تعزيز الشفافية في المجال النووي—سواء من خلال الإعلان الطوعي عن المخزونات أو مشاركة البيانات التقنية أو السماح بالرقابة الدولية—عاملًا أساسيًا في تجنّب سوء الفهم الذي قد يؤدي إلى تصعيد غير محسوب.
ومعاهدة عدم الانتشار النووي تبقى الإطار القانوني الأهم للحد من الانتشار الرأسي والأفقي لهذا النوع من السلاح. وإذا ما تم الالتزام الصارم بها وتطوير أدوات التحقق التابعة لها، يمكن تقليص حجم الترسانات النووية بشكل تدريجي وفعّال.
من جهة أخرى، فإن التعاون السلمي في المجال النووي، كما هو الحال في الاتفاق النووي الإيراني عام 2015، يبرز كيف يمكن استخدام التكنولوجيا النووية لأغراض مدنية، مع المحافظة على الالتزامات الدولية، بما يعزّز الثقة ويحول دون سباقات تسلّح جديدة.
الشرق الأوسط: الحاجة إلى رؤية تتجاوز منطق الردع
تواجه منطقة الشرق الأوسط تحديات معقدة تتداخل فيها النزاعات المسلحة مع الانقسامات الطائفية والتدخلات الأجنبية، ما يجعلها بيئة خصبة لتسابق تسلّحي نووي أو غير نووي. وإنشاء نظام أمني إقليمي متوازن وعادل لا يمكن أن يتحقق دون معالجة جذرية للبيئة السياسية التي تُنتج هذه النزاعات. يجب الاعتراف بحق جميع شعوب المنطقة في الأمن والتنمية على قدم المساواة، ورفض منطق الاستثناء الذي يعمّق الفجوات.
إن بناء الثقة الإقليمية لا يكون عبر تسويات أمنية فوقية، بل عبر مشاريع تنموية مشتركة تعالج جذور الخوف والعداء. ويُعد إنشاء منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل، تشمل الأسلحة النووية والبيولوجية والكيميائية، بوابة ضرورية لأي تحول استراتيجي نحو السلام.
كما أن إشراك القوى المدنية، والجامعات، ومراكز الفكر في هذا النقاش يعزّز من شرعية الحلول المقترحة، ويدفع نحو صيغ أكثر عدالة وواقعية، بعيدًا عن منطق الهيمنة والردع.
الخلاصة: من أمن الرعب إلى أمان التنمية
إن الخطر النووي لا يكمن فقط في احتمالية استخدامه، بل في ما يمثّله من اختلالات أخلاقية واستراتيجية واقتصادية. فوجود هذه الأسلحة بحد ذاته يحرم العالم من فرصة بناء أمن مشترك ومستدام، قائم على احترام الإنسان والبيئة.
ولمواجهة هذا التحدي، لا بدّ من إعادة توجيه السياسات الدولية نحو رؤية تنموية تستند إلى تقاسم الموارد، وتمكين الشعوب، وإعادة الاعتبار للأمن بمعناه الشامل، وليس فقط العسكري. المطلوب اليوم ليس فقط نزع الأسلحة، بل نزع منطق العنف من صلب السياسات العالمية.
المراجع:
1. United Nations. (2015). Transforming our world: The 2030 Agenda for Sustainable Development. https://sdgs.un.org/2030agenda
2. SIPRI. (2024). Global Nuclear Arsenals Continue to Grow. https://www.sipri.org
3. ICAN. (2021). The Humanitarian Impact of Nuclear Weapons. https://www.icanw.org
4. Helfand, I. (2013). Nuclear Famine: Two Billion People at Risk. IPPNW
5. United Nations Office for Disarmament Affairs. (2023). Securing Our Common Future: An Agenda for Disarmament. https://disarmament.un.org





