المهندس ساسين القصيفي
عَرَّفت هذه الفئةُ عن نفسها، بِشَكلٍ واضحٍ، إبَّان ثورة تشرين عام 2019، عندما كانت تنقَضُّ مجموعاتٌ شبابيَّة، وهي تحملُ عِصِيًّا وأسلحةً، على المتظاهرين السِّلميِّين، لِضَربِهِم وإرهابِهم، وهم يَصرُخون: شيعة شيعة شيعة…
وها هي نفسُ الفئةِ اليوم، تُعبِّرُ عن نفسِها، عبر مظاهراتٍ استفزازيَّةٍ أو احتجاجاتٍ على الطرقاتِ. وذلك عندما يَجُوبُ البعضُ منها، شوارِعَ البيئاتِ اللبنانيَّة المختلفة، وهُم يمتطون الموتوسيكلاتِ، ويلوحون بأعلامٍ غير لبنانيَّة، وَرَاياتٍ مَذهبيَّةٍ، أو عندما يقطعون طريق المطار، وهم يصدحون بأعلى حناجرهم: شيعة شيعة شيعة…
طبعًا، هذه الفئةُ لا تُمثِّلُ كلِّ الطائفةِ الشيعيَّة في العالَم، لكنَّها تُقدِّمُ بمكانٍ ما، صورةً عن أزمةِ جماعةٍ، انخَرَطت في لعبةِ الأمَمِ في الإقليمِ، فعاشَت لزمنٍ، وهْمَ فائضِ القُوِّةِ، حتى خُيِّلَ لها – أو أُريدَ لها أن تقتنعَ – أنَّها لاعبٌ رئيسٌ في تغييِّرِ المعادلاتِ، الإقليميَّةِ والدَّوليَّةِ، إلى أنْ تبدَّلت إتِّجاهاتُ موازينِ القوى، محلِّيًا وإقليميًّا ودوليًّا، لغير صالحها، فانكفأت الى الداخِلِ، تُعظِّمُ بِنَفسها، تعبيرًا عن مجدٍ مفقُودٍ.
وبعيدًا عن زواريبِ السِّياسَةِ اللبنانيَّةِ، لا يُمكِنُ تحليلُ، هذه الظاهرةَ إلا من زاويةٍ نفسيَّةٍ واجتماعيَّةٍ، لفهمِ الدوافعِ، التي تقفُ خلفَ هذه التصرُّفاتِ الجَماعيَّةِ.
سيكولوجيا الجماعة والهُويَّة المُهدَّدة، في علم النفس الاجتماعيِّ، تُصنَّفُ هذه السُّلوكيَّاتُ ضمنَ إطارِ “الهوية الجماعيَّة المُهدَّدة”. عندما تشعرُ جماعةٌ ما بأنَّها مُحاصَرةٌ أو مُستهدَفَةٌ أو أنَّ شرعيَّتها مهدَّدة، فإنَّها تميلُ إلى التمسُّكِ بهُوِيَّتها بشكلٍ أكثرَ تطرُّفًا، وتُحاولُ تأكيدَ وجودِها بأساليبَ استعراضيَّةٍ، مُبالَغ بها. وفي هذه الحالة، يُصبِحُ تكرار الهُتاف والهُويَّة وسيلةً دفاعيَّةً تُعزِّزُ الشعورَ بالقوَّةِ والانتماءِ، وتُحوِّلُ حالةَ “الضحيَّةِ” التي يَشعرونَ بها، إلى صورةِ “المُنتصِرِ” ولو بشكلٍ رمزيٍّ. وهذا الإحساسُ الجَماعيُّ بالتفوُّق، يُقلِّلُ من الشكوكِ الذاتيَّةِ، ويزيدُ الثقةَ في المجموعةِ.
هذا الشعور، ليس حِكرًا على الشيعة. فالمسيحيون إبَّان الوجود السوري، في تسعينيات القرن الماضي، كان فوزُ فريقِ الحِكمة في كرة السَّلة، يمثِّلُ انتصارًا لوجودهم وتأكيدًا استعراضيًّا جَماعيًّا، في رحلةِ مواجهتهم، للإحباطِ الذي فَرَضَهُ نظامُ البعثِ السُّوري معَ شُرَكائِهِم في الوطنِ، عليهم في تلك المرحلة.
وكذلك، يمكنُ فهمَ حَرَكَات التَّطرُّفِ السُّنيِّةِ في الإقليمِ والعَالَم، وكأنَّها حالةُ تعبيرٍ عُنفيَّةٍ، تُجاه كلّ آخر مختلفٍ، اعتقَدَ هذا الإرهابيُّ أوقٌُيَّض له ان يتلقَّنَ، أنَّ ذاكَ، يُجَسِّدُ السَّبَبَ في تخلٌّفِهِ أو فقرهِ أو جهله… وهذا مثالٌ آخرٌ، لأزمةِ الثِّقةِ بالذَّاتِ والمُجتَمَع.
وعلمُ النَّفسِ الإجتماعيِّ، يؤكِّدُ أنَّه كلَّما زادتِ أزمةُ الثِّقةِ بالمُستقبَلِ، زادَ الاعتمادُ على الهُوِيَّةِ الطائفيَّةِ، كملاذٍ نفسيٍّ وأيديولوجيٍّ يُعَوِّضُ غيابَ الاستقرارِ الحقيقيِّ.
خِتَامًا
إنَّ ظاهرةَ “شيعة شيعة شيعة”، ومثيلاتِها من هُتافاتِ العصبيَّاتِ الأخرى، هي في الحقيقةِ مُنتَجٌ لسياقٍ نفسيٍّ واجتماعيٍّ مأزومٍ، وليست مجرَّدَ فعلٍ آنيٍّ معزولٍ. والتحدّي الأكبر، يكمنُ في كيفيَّةِ تحويلِ، الطاقةِ الجماعيَّةِ، من هُتافاتٍ تُرسِّخُ الانقسامَ، إلى مشاريعَ تُعزِّزُ المُواطَنَةَ والمُشاركةَ الفاعِلَةَ؟!
الحلُّ ليسَ يقينيًّا ولا سهلًا…





