الملف الإستراتيجي
إعداد زهير عساف
في عالم يزداد تقلبًا وتداخلًا، باتت فكرة جعل الشرق الأوسط منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل أكثر من مجرد نداء أخلاقي. إنها اليوم ضرورة استراتيجية حتمية في سياق إقليمي ودولي متشابك، يشهد تصاعدًا في سباقات التسلّح، وتراجعًا في منسوب الثقة بين الفاعلين الأساسيين. يشكّل الشرق الأوسط إحدى أكثر المناطق اختلالًا من حيث التوازنات الأمنية، حيث تتداخل النزاعات الأهلية مع التوترات العابرة للحدود، وتُفاقمها التدخلات الدولية والنزاعات العقائدية والطائفية، في ظل غياب بنية ردع جماعي حقيقية.
تشير تقديرات معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI) إلى أن الدول العربية أنفقت أكثر من 180 مليار دولار على التسلّح في عام 2023، ما يُمثّل قرابة 5.5٪ من الناتج المحلي الإجمالي الإقليمي، وهي أعلى نسبة إنفاق عسكري مقارنة بأي منطقة أخرى في العالم¹. هذه الموارد، التي تُستهلك في سباقات تكديس الأسلحة، تُشكّل عبئًا مباشرًا على الاقتصادات المنهكة، وتُراكم توترات يصعب احتواؤها سياسيًا أو اجتماعيًا.
من الناحية الواقعية، يشير سجل المنطقة إلى استخدام فعلي لأسلحة الدمار الشامل، ما يجعل النقاش حول نزعها مرتبطًا بالأمن الوجودي وليس فقط بالردع النظري. فقد شكّل استخدام الغاز السام في حلبجة أواخر الثمانينيات نقطة سوداء في الذاكرة الإقليمية، حيث قُتل ما لا يقل عن 5,000 مدني في يوم واحد، فيما بقي أكثر من 10,000 مصابًا بأمراض مزمنة². هذا النمط من الاستخدام تجدد لاحقًا في الحرب السورية، بين عامي 2013 و2018، حيث وثّقت بعثات تقصّي الحقائق أكثر من 30 هجومًا مؤكّدًا باستخدام غاز السارين والكلورين³، مما يعكس هشاشة المنظومة القانونية والتنفيذية على المستوى الإقليمي.
ورغم انخراط معظم دول المنطقة في معاهدات دولية لحظر هذه الأسلحة، مثل معاهدة حظر الأسلحة الكيميائية ومعاهدة عدم الانتشار النووي (NPT)، إلا أن التطبيق العملي ظلّ انتقائيًا ومتفاوتًا. فإسرائيل، التي تمتلك ترسانة نووية غير مُعلنة تُقدّر بين 80 إلى 90 رأسًا نوويًا⁴، لا تزال خارج إطار معاهدة NPT، بينما تُخضع الوكالة الدولية للطاقة الذرية إيران إلى أكثر من 15 عملية تفتيش سنوية⁵، مما يُكرّس بيئة من انعدام الثقة وانعدام التكافؤ في المعايير الدولية. ويزيد من هذه الهشاشة اتجاه بعض الدول مثل السعودية إلى توسيع استثماراتها في المجال النووي، إذ بلغ إجمالي استثماراتها في البحث والتطوير النووي أكثر من 2.5 مليار دولار بين 2018 و2023، رغم عدم تشغيل أي مفاعل حتى اليوم⁶.
تبدو الحاجة اليوم ملحّة لإطلاق مسار جديد قائم على فهم عميق لتركيبة المنطقة وموازين القوى فيها. ويتطلب هذا المسار تبنّي مفهوم “الأمن التشاركي” بدلًا من منطق “الردع عبر التسليح”، أي أن تسعى الدول إلى تأمين نفسها من خلال التعاون مع جيرانها، وليس عبر التفوّق عليهم. هذا التحوّل لا يتأتى ببيانات سياسية أو نوايا حسنة، بل عبر بناء آلية سياسية وأمنية شاملة تنخرط فيها جميع الأطراف دون استثناء، ضمن إطار تفاوضي ترعاه دول محايدة وتحميه مظلة قانونية دولية شفافة⁷.
أما على صعيد الحياد الدولي، فقد أظهرت التجربة أن الدول المتورطة عسكريًا – مثل الولايات المتحدة وروسيا – غالبًا ما تفشل في لعب دور الوسيط النزيه، نظرًا لتضارب مصالحها المباشر في الإقليم. وتُظهر المقارنة مع تجارب الوساطة في آسيا وأمريكا اللاتينية أن الوساطة التي قادتها دول محايدة مثل النمسا أو فنلندا هي الأنجح على صعيد البناء المؤسسي المستدام.
من الجوانب الحاسمة لنجاح هذه المقاربة، ضرورة الربط بين نزع السلاح والتنمية. فوفقًا لتقارير التنمية البشرية للأمم المتحدة، فإن إعادة تخصيص 10٪ فقط من ميزانيات الدفاع في الدول العربية – أي نحو 18 مليار دولار سنويًا – نحو التعليم والتكنولوجيا والرعاية الصحية، من شأنه أن يخلق أكثر من 3.5 مليون فرصة عمل خلال خمس سنوات⁸، ويخفض فجوة الأمية بنسبة 30٪، ويرفع متوسط العمر المتوقع في المناطق المنكوبة بالنزاع بنحو 3 إلى 4 سنوات خلال عقد واحد.
غير أن هذا المسار لن ينجح دون إشراك المجتمع المدني، وتحرير النقاش الأمني من احتكار النخب العسكرية والسياسية. فالمواطن العربي، الذي يدفع فاتورة الحرب من جيبه وأمنه وكرامته، يجب أن يصبح طرفًا في الحوار، لا مجرد متلقٍ لنتائجه. وتشير تقارير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي إلى أن أقل من 8٪ من منظمات المجتمع المدني في العالم العربي تعمل في قضايا نزع السلاح، أو مراقبة الأمن، وهو مؤشر على هشاشة الرقابة الشعبية⁹.
تجربة أمريكا اللاتينية – وتحديدًا “معاهدة تلاتيلوكو” الموقّعة عام 1967 – تُقدّم نموذجًا تاريخيًا يمكن الاستفادة منه. فقد نجحت 33 دولة في أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي في إعلان منطقتها خالية من الأسلحة النووية، رغم الإرث العنيف من الانقلابات والصراعات. وقد ساهم هذا المسار لاحقًا في خفض نسبة الإنفاق العسكري الإقليمي بنسبة 35٪ خلال عشرين سنة¹⁰، وتوجيه الموارد نحو التنمية الريفية والتعليم العالي.
الشرق الأوسط، إذًا، لا يفتقر إلى الموارد، بل إلى الخيال الاستراتيجي. الأزمة ليست في التمويل بل في ترتيب الأولويات، وليست في ضعف القدرة بل في غياب الإرادة السياسية الجماعية. فالمسار نحو شرق أوسط خالٍ من أسلحة الدمار الشامل ليس مستحيلًا، لكنه يتطلب مقاربة جذرية تخرج من أسر “الردع النووي” إلى منطق “الضمان التنموي”، ومن عقلية الغلبة إلى ثقافة الشراكة.
إن تحويل هذا الحلم إلى مشروع واقعي يمرّ بلحظة صدق نادرة بين القوى الفاعلة، تضع مصلحة الإنسان فوق مصلحة النظام، وتعيد الاعتبار للأمن الإنساني لا الأمن الحدودي فقط. فالأسلحة التي لا تُستخدم تُثقل كاهل الدولة، والأسلحة التي تُستخدم تُفجّر المجتمع.
ما نحتاجه ليس فقط وقف التصعيد، بل وقف المنظومة التي تنتجه.
ولن يكون ذلك ممكنًا… ما لم نكسر وهم “الأمن عبر الخوف”.
إن ما يعمّق التحدي أيضًا هو غياب الإرادة الدولية الجادّة في الضغط لتحقيق هذه الرؤية. فعلى مدى العقود الثلاثة الماضية، لم تُفعّل أي من المقترحات الأممية التي دعت إلى عقد مؤتمر شرق أوسطي شامل حول نزع أسلحة الدمار الشامل، رغم أن الجمعية العامة للأمم المتحدة تبنّت أكثر من عشرين قرارًا بهذا الشأن منذ عام 1995. كل هذه القرارات بقيت حبراً على ورق بسبب معارضة بعض الدول الكبرى أو تهرّب بعض الأطراف الإقليمية من الالتزام بالتزامات شاملة ومتوازنة.
وفي المقابل، فإن استمرار الوضع القائم يحمل مخاطر متصاعدة. فالتقارير الصادرة عن “المرصد الدولي للأسلحة الكيميائية” تُظهر أن عدد البلاغات حول استخدام محتمل لهذه الأسلحة تضاعف ثلاث مرات في السنوات العشر الأخيرة مقارنة بالسنوات التي سبقت عام 2010. هذا الاتجاه التصاعدي لا يمكن فصله عن غياب الردع الفعّال وانعدام المحاسبة.
كذلك، تشير محاكاة المخاطر الجيوسياسية الصادرة عن معهد “راند” الأميركي إلى أن اندلاع مواجهة محدودة تستخدم فيها أسلحة غير تقليدية بين دولتين من دول المنطقة يمكن أن يؤدي إلى سقوط ما لا يقل عن 200,000 ضحية مباشرة، فضلًا عن انهيار الاقتصاد الإقليمي بنسبة تتجاوز 12٪ في غضون عام واحد فقط، وارتفاع غير مسبوق في نسب النزوح والهجرة الجماعية، وهو ما يتجاوز قدرات الاستجابة الإغاثية الحالية للأمم المتحدة بمراحل.
لذلك، فإن التردد في اعتماد هذا المشروع الطموح لن يكون فقط فشلًا دبلوماسيًا، بل انتحارًا استراتيجيًا بطيئًا للمنطقة. إن نزع أسلحة الدمار الشامل لم يعد خيارًا سياسيًا تفاوضيًا، بل شرطًا من شروط البقاء الجماعي. والمنطقة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، بحاجة إلى لحظة توافق تاريخي تعيد صياغة أولوياتها وتستثمر في الإنسان بدلًا من تكديس أدوات فنائه.
المراجع
1. SIPRI Yearbook 2023, Global Developments in Armaments and Disarmament.
2. Human Rights Watch, Genocide in Iraq: The Anfal Campaign Against the Kurds, 1993.
3. OPCW, Fact-Finding Mission Reports on Syria, 2014–2020.
4. Bulletin of the Atomic Scientists, Nuclear Notebook: Israel, 2023.
5. IAEA, Quarterly Reports on Iran, 2020–2024.
6. World Nuclear Association, Saudi Arabia Nuclear Energy Profile, 2023.
7. UNODA, Treaty Status and Implementation Reports.
8. UNDP, Arab Human Development Report, 2022.
9. UNDP, Strengthening Civil Society Participation in Security Governance, 2021.
10. Treaty of Tlatelolco, 1967 – and associated implementation reviews.





