الملف الإستراتيجي
أعده د. بيار الخوري، بحث محكّم صادر عن مجلة معهد فلسطين لأبحاث الأمن القومي
بصفتها مركزًا حضاريًا كنعانيًا هامًا، حافظت فلسطين على مكانتها البارزة منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد. وقد طورت المنطقة مراكز حضرية متطورة، بما في ذلك مدينة أريحا، التي تُعرّفها الأبحاث الأثرية بأنها أقدم مدينة مأهولة بالسكان في العالم (توب، ١٩٩٨). يُشكّل الاحتلال الإسرائيلي تهديدًا وجوديًا للتراث الفلسطيني من خلال سياسات ممنهجة تسعى إلى محو الهوية الفلسطينية من خلال السيطرة على المواقع الأثرية وتغيير السجلات التاريخية (أبو الحاج، ٢٠٠١). في هذا السياق، يُطرح السؤال المحوري: ما هي الاستراتيجيات التي يُمكن استخدامها لتحويل التراث الكنعاني إلى مُحفّز للنمو الاقتصادي في فلسطين حتى في ظل التحديات الجيوسياسية وضعف البنية التحتية؟
يُشكّل الارتباط بين السكان المعاصرين وأسلافهم نقطةً حاسمةً في ترسيخ الهويات الوطنية وتشكيل الوعي الجماعي وفقًا للتحليل التاريخي والأنثروبولوجي. تُظهر أحدث بحوث الحمض النووي في فلسطين وجود روابط وراثية مع الكنعانيين القدماء، كما أظهرته دراسة هابر وآخرون (2017). أظهرت الدراسة وجود روابط وراثية لا يمكن إنكارها بين الفلسطينيين المعاصرين والكنعانيين القدماء. وقد كانت بلاد الشام موطنًا لهذه الشعوب منذ أكثر من أربعة آلاف عام. ويُقدم هذا الاكتشاف دليلاً على ادعاء الفلسطينيين بجذورهم التاريخية العميقة في المنطقة، بينما يُفنّد الادعاءات القائلة بأن الفلسطينيين سكان حديثون أو غير أصليين للمنطقة.
تعمل ممارسة علم الآثار في إسرائيل وفق نهج يُسمى “علم الآثار السياسي”، والذي يطبق البيانات الأثرية والتاريخية بشكل انتقائي لتحقيق أهداف سياسية وأخرى تتعلق بالهوية. وقد أطلقت وزارة السياحة الإسرائيلية حملة “الكنعانيون أجدادنا” في عام 2020، والتي تُعدّ مثالاً بارزًا على علم الآثار السياسي. وتهدف هذه الحملة، من خلال هذه الحملة، إلى إقامة صلة حصرية بين التراث الكنعاني والهوية اليهودية، التي تُمثل عاملًا ثقافيًا مشتركًا بين شعوب المنطقة. ينتقد فينكلشتاين (2020) هذا الارتباط التاريخي، إذ يتجاهل السياقات التاريخية والأنثروبولوجية المفصلة، بينما يروج لرؤية تراثية مبسطة تستبعد الآخرين وتعيد تشكيل التاريخ لتلبية الاحتياجات السياسية الإسرائيلية. تتجاوز معركة السيطرة على السرديات الفكر الأكاديمي والمبادرات الإعلامية، اذ يتجلى الصراع على المواقع الأثرية والتراثية في المناطق التي تتعرض فيها للتدمير أو الإهمال أثناء النزاعات، أو تعاني من قيود الوصول من قبل البعثات الدولية بدعوى أسباب أمنية. يصبح توثيق التراث الفلسطيني ضرورة ملحة، لأنه بمثابة علامة هوية وأداة قانونية لحماية التراث دوليًا. يبرز الانضمام إلى اتفاقية لاهاي لعام 1954 لحماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلح كإجراء حاسم. تُنشئ الاتفاقية هيكلًا قضائيًا عالميًا يُمكّن من مقاضاة أولئك الذين يدمرون المواقع الأثرية، مثل تماثيل بوذا في باميان، والتي اعتبرتها الإنتربول والمحكمة الجنائية الدولية جريمة حرب وفقًا لتقارير الإنتربول لعام 2023. إن تطبيق هذا الإطار في الأراضي الفلسطينية من شأنه أن يخلق حاجزًا قانونيًا أساسيًا أمام أي جهود مستقبلية تهدف إلى تدمير أو تعديل المعالم التراثية. ينبع السرد التاريخي الفلسطيني من مصادر تتجاوز المصادقة الجينية والتاريخ الشفوي ويتطلب الحفاظ على التراث نهجًا علميًا وقانونيًا ودبلوماسيًا مشتركًا لتوثيقه وحمايته. ويواجه التراث، الذي يحمل إمكانات كأداة للتنمية، العديد من العوائق المعقدة، بما في ذلك الاحتلال الإسرائيلي، بالإضافة إلى تحديات هيكلية داخلية مثل نقص التمويل المؤسسي، إلى جانب انعدام السيطرة الكاملة على كامل الأرض.
تعطيل الاحتلال الإسرائيلي للسيادة الثقافية بشكل ممنهج.
يُشكل الاحتلال الإسرائيلي عائقًا رئيسيًا أمام نمو التراث الثقافي من خلال السيطرة على المساحات الجغرافية ومحو الهوية الكنعانية بشكل ممنهج. يكشف تقرير مرصد يوروميد لعام 2022 أن قوات الاحتلال هدمت 15 موقعًا أثريًا في الضفة الغربية منذ عام 2010 بالجرافات أو بناء المستوطنات، بينما حُوّلت مواقع مثل تل القدح إلى منتجعات سياحية ذات طابع توراتي تمحو التاريخ الكنعاني. تُغيّر الممارسات الحالية السرديات التاريخية الإقليمية لصالح الأهداف الصهيونية، بينما تمنع المجتمعات الفلسطينية من الانخراط في تراثها من أجل التنمية الوطنية والاقتصادية.
القيود المفروضة على الباحثين ومنع الوصول
يواجه الباحثون الفلسطينيون قيودًا صارمة على حركتهم، مما يمنعهم من الوصول إلى العديد من المواقع الأثرية، بالإضافة إلى التدمير المباشر لهذه المواقع. ووفقًا لتقرير مؤسسة باسيا لعام ٢٠٢٣، فإن ٦٠٪ من المواقع الأثرية المقيدة توجد مواقع أثرية في المنطقة “ج” حيث تُلزم تصاريح عسكرية إسرائيلية خاصة. تُعيق الظروف السائدة البحث العلمي، وتُعيق جهود التوثيق والتنقيب، وتُعيق تطوير مسارات سياحية مُشتركة. تُمثل السياسات الإسرائيلية آليات تُستنزف القوى العاملة في هذا القطاع، وتُعيق التوثيق التاريخي الفلسطيني عن تشكيل رواية مُوحدة.
التهميش المالي وغياب الإرادة المؤسسية
يواجه قطاع السياحة والتراث في فلسطين تحديات سياسية وتهميشًا ماليًا واضحًا. تتلقى وزارة السياحة والآثار أقل من 0.5% من الميزانية الإجمالية، وهو ما لا يمكن مقارنته مع تخصيص الأردن 4% وفقًا لبيانات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لعام 2021. يُظهر الدعم الحكومي لهذا القطاع دعما” غير كافٍ لأهميته الاقتصادية والاستراتيجية. تُكافح الوزارة للحفاظ على المواقع التراثية وتطوير السياحة بسبب قيود التمويل التي تُجبر المبادرات الثقافية على الاعتماد على الدعم الأجنبي والمساهمات الخاصة.
نحو كسر الحلقة المفرغة
من الضروري اتباع استراتيجية مُتعددة الأوجه، تُدمج الدبلوماسية الثقافية مع التخطيط الاستراتيجي، وتعبئة الموارد الوطنية والدولية، لمواجهة هذه التحديات. يجب توثيق الانتهاكات الإسرائيلية ضد التراث الكنعاني لتقديمه قانونيًا إلى المنظمات الدولية، وفي الوقت نفسه إطلاق حملات إعلامية ومجتمعية لحماية التراث. ويمثل إنشاء صندوق وطني مدعوم باستثمارات القطاع الخاص وتبرعات فلسطينيي الشتات إجراءً أساسيًا لتوفير موارد مالية مستقلة ومستدامة. يمكن تجاو القيود على أرض الواقع عبرتوسيع التعاون بين المؤسسات الأكاديمية الدولية ومراكز البحث من خلال مشاريع رقمية تعتمد على الذكاء الاصطناعي والواقع الافتراضي للتوثيق والعروض التفاعلية.
دروس من التجارب الدولية
تُظهر الأمثلة الدولية الناجحة أنه من خلال العزيمة السياسية والشراكات المجتمعية والأساليب المالية المبتكرة، يمكن للتراث الثقافي في فلسطين أن يتحول من مجرد رمز تاريخي إلى مورد اقتصادي. نستعرض هنا ثلاث تجارب اساسية: الأردن، وإيطاليا، وجنوب إفريقيا
تُبين تجربة الأردن أن البتراء تُمثل محركًا للسياحة المجتمعية ورافدًا اقتصاديًا محليًا. يُمثل الأردن مثالًا بارزًا على دمج التراث في التنمية الاقتصادية الوطنية من خلال تطور البتراء إلى مركز سياحي عالمي مع الحفاظ على ارتباطها بالبيئة المحلية. أطلقت الحكومة الأردنية نهجًا تشاركيًا يربط المواقع الأثرية بالمجتمعات المجاورة من خلال دعم السياحة المجتمعية وتطوير الحرف اليدوية، مع تدريب المرشدين السياحيين المحليين وربط المنازل الريفية بمنصات الحجز العالمية مثل Airbnb.
شهد الاردن زيادة في دخل الفرد، بينما انخفضت الضغوط على البنية التحتية العامة بفضل هذه الاستراتيجية التي ساهمت بنسبة 14% من الناتج المحلي الإجمالي من خلال عائدات السياحة المرتبطة بالتراث، وفقًا لمنظمة السياحة العالمية 2022. الدروس المستفادة لفلسطين من هذه التجربة واضحة: شبكات الضيافة المحلية المصممة لدعم السياحة المجتمعية يمكن أن تُدر دخلًا ثابتًا للأسر الفلسطينية من خلال الاستثمار في المواقع الكنعانية مثل تل بلاطة في نابلس ودير علا في وادي الأردن، عند دمجها مع التدريب المحلي والشراكات الرقمية.
وتُظهر التجربة الإيطالية مع “بومبي العالمية” كيفية مواءمة استراتيجيات الاستثمار مع جهود الحفاظ على التراث. بعد أن غطتها رماد جبل فيزوف، تحولت بومبي على مدى عشرين عامًا إلى أبرز إنجاز استثماري في التراث الأثري في أوروبا. أطلقت الحكومة الإيطالية مشروع “بومبي العالمي” لترميم الموقع الأثري، متبعةً استراتيجيةً تجمع بين المعالم السياحية وجهود الحفظ العلمي. وتدعم الإيرادات السنوية، التي تتجاوز ملياري يورو (إيكوموس، 2019)، صيانة الموقع الأثري، مع تطوير مراكز الزوار، وتمويل البرامج التعليمية والمبادرات البحثية.
تتحسن الاستدامة المالية والتراثية في هذا الموقع من خلال التعاون بين القطاعين العام والخاص، وتطبيقات التكنولوجيا الحديثة في مجال ضبط الحشود وحماية الآثار. ويمكن لفلسطين اتباع هذا الإطار من خلال ترميم مواقع مثل تل الجزار أو عين سامية، مع إنشاء مرافق استقبال ذكية ومراكز للترجمة الفورية متعددة اللغات. وسيأتي التمويل التدريجي لهذه المبادرات من عائدات السياحة، التي ستُخصص أيضًا جزءًا منها للبرامج المخصصة لحفظ وتوثيق التراث الكنعاني.
كما تُظهر جنوب أفريقيا تطبيقًا رائدًا لسندات التراث الخضراء كأداة مبتكرة للدعم المالي في مجال حماية التراث عبر تطبيق رائدً لأدوات التمويل المستدام لحماية التراث. من منظور تمويلي. دخلت الحكومة في شراكة مع البنك الدولي لبدء مشروع يتضمن إنشاء “سندات ثقافية خضراء”، وهي أدوات دين سيادية مصممة لتمويل مشاريع محددة، في مواجهة “سياسات المحو” وسياسات الحماية والتدويل التي أصبحت ضرورية للحفاظ على الوجود والهوية.
قوة التراث الكنعاني
تمتلك منطقة بلاد الشام أحد أبرز كنوزها التاريخية من خلال تراثها الكنعاني. يتجاوز التراث الكنعاني الأهمية الثقافية ليشكل مصدر قوة اقتصادية يمكن تطويره استراتيجيًا من خلال الاستثمارات في السياحة الثقافية والصناعات الإبداعية. وتزداد أهمية هذا التراث من خلال السعي إلى محفزات التنمية المحلية النابعة من الهوية، والتي تعمل على تحسين فرص العمل مع تعزيز الريادة الثقافية والاقتصادية.
أولاً: السياحة الثقافية الكنعانية
يمتد التراث الكنعاني إلى آلاف السنين، وتوجد أدلة أثرية في مواقع متعددة، بما في ذلك أريحا وشكيم (نابلس القديمة)، بالإضافة إلى تل الجزار. يمكن لهذه المواقع أن تُنشئ شبكة سياحية تفاعلية تعرض قصة الكنعانيين بطرق معاصرة. يمكن لتقنيات الواقع الافتراضي والمعزز (VR/AR) خلق هذه التجربة من خلال إعادة بناء المدن الكنعانية ومشاهد الحياة اليومية، بحيث يشعر الزوار وكأنهم عاشوا في تلك الفترة الزمنية.
أظهرت إعادة البناء الرقمي لأكروبوليس أثينا من قِبل اليونان (اليونسكو، 2020) قدرة التقنيات الرقمية على تجديد الذاكرة الثقافية وتعزيز شعبية المواقع الأثرية، مما أدى إلى زيادة أعداد الزوار وزيادة متوسط الإنفاق. ومن خلال اعتماد هذا النموذج في السياق الفلسطيني، سيتم إنشاء مراكز ترجمة تفاعلية في كل موقع أثري كنعاني لخدمة السياح والطلاب والباحثين، مع توفير فرص عمل في مجال الجولات الإرشادية والتصميم الرقمي والتسويق السياحي.
ثانيًا: الصناعات الإبداعية
يُشكل التراث الكنعاني، بما في ذلك الحرف والرموز، قاعدة قيّمة لتطوير الحرف الحديثة والصناعات الإبداعية. ويمكن للمصممين المعاصرين ابتكار فخاريات ومجوهرات مستوحاة من الرموز الكنعانية المكتشفة في تل الجزار وبيت لحم، والتي تُناسب الأذواق العالمية مع الحفاظ على طابعها التقليدي.
أظهر مشروع التراث المصري (البنك الدولي، 2021) كيف يُحقق دمج الحرف التقليدية مع أنظمة الإنتاج والتسويق الحالية مكاسب مالية سنوية كبيرة تصل إلى 50 مليون دولار أمريكي من خلال الصادرات والسياحة الداخلية والمنصات الإلكترونية. ويمكن لفلسطين إنشاء علامة تجارية للحرف اليدوية “الكنعانية” تتضمن تصاميم موحدة وشهادات أصالة لتسويق منتجاتها في المعارض والمتاحف، بالإضافة إلى المنصات الإلكترونية.
التحديات الهيكلية والسياسية التي تواجه تفعيل التراث الكنعاني: الاحتلال ونقص الموارد
يتمتع التراث الكنعاني بإمكانات اقتصادية كبيرة في مجال السياحة الثقافية والصناعات الإبداعية، على الرغم من أنه لا يزال غير متطور. يجد المستثمرون شروطًا مواتية لمشاريع التراث البيئي والثقافي في المجتمعات الفقيرة، والتي تلبي أيضًا معايير الأثر الاجتماعي. يمكن لفلسطين إنشاء نسختها الخاصة من روابط التراث الثقافي المعروفة باسم “روابط التراث الكنعاني”، والشراكة مع منظمات مثل صندوق التضامن الإسلامي التابع لليونسكو لتنفيذ هذه الاستراتيجية. ستُخصص الأموال المُجمعة لمبادرات الحفاظ على المواقع الأثرية وبرامج تنمية القوى العاملة التي تُركز على الشباب في الصناعات الثقافية والإبداعية.
الابتكار الرقمي في خدمة التراث
تستلزم العقبات السياسية واللوجستية التي تُعيق حماية التراث الثقافي الفلسطيني تطبيق تطورات تكنولوجية مبتكرة للتغلب على القيود الجغرافية والمالية، مع إرساء آليات فعّالة لتوثيق الحقوق وإعادة تمثيل السرد العالمي. توثيق حقوق الملكية الفكرية باستخدام تقنية بلوكتشين
تُثبت تقنية بلوكتشين أنها ابتكار رائد في هذا السياق، إذ تُتيح إنشاء سجلات رقمية لا حصر لها تُتتبع أصول الحرف اليدوية الفلسطينية، وتحمي حقوق صانعيها ورموزهم الثقافية. ويُجسّد إطلاق اليونسكو لمشروع “التراث الهندي الرقمي” عام ٢٠٢٣ نجاح هذه الطريقة. يهدف إنشاء قاعدة بيانات مفتوحة لآلاف التصاميم والعناصر التراثية الهندية إلى حماية حقوق الحرفيين ووقف التزوير التجاري. ويمكن للسلطات الفلسطينية إنشاء سجل إلكتروني لتتبع القطع الفنية الكنعانية، مثل الفخار والحلي، مع ربط كل قطعة بصانعها ومكان إنتاجها من خلال مُعرّفات رقمية. من شأن ذلك أن يحمي التراث من السرقة، مع ترسيخ مكانة المنتجات الفلسطينية كمنافسة عالمية متفوقة.
المتاحف الافتراضية ثلاثية الأبعاد
في هذا السياق، تُتيح النمذجة ثلاثية الأبعاد، إلى جانب تقنيات الواقع الافتراضي، إمكانياتٍ لمعالجة مشكلة القطع الأثرية المفقودة أو التي يتعذر الوصول إليها. يُظهر مشروع “متحف بغداد الافتراضي”، المُطوَّر بالتعاون مع شركة CyArk ، كيف تُحافظ المتاحف الرقمية على التراث الثقافي من خلال نُسخ رقمية دقيقة تُوظَّف لأغراض تعليمية وعرضية. يُمكن للسلطات الفلسطينية إنشاء متحف كنعاني افتراضي يعرض القطع الأثرية التي نُهبت أو دُمِّرت خلال الاحتلال، بما في ذلك الاكتشافات في تل الجزار وعين سامية. يُمكن للزوار من فلسطين والعالم استكشاف التراث الكنعاني من خلال التقنيات التفاعلية الحديثة في هذا المتحف، الذي يُعزز الوعي العالمي ويُرسِّخ الرواية الفلسطينية في الفضاء الرقمي.
توصيات لتفعيل التراث الكنعاني في إطار الصمود والتنمية
تُحوِّل التحديات المُعقَّدة التي يواجهها المجتمع الفلسطيني الحفاظ على التراث من مسؤولية ثقافية إلى ضرورة استراتيجية. برزت الحاجة الاستراتيجية لتعزيز السيادة الرمزية والاقتصادية، مع مكافحة محاولات التشويه الثقافي، وإعادة صياغة السرديات التاريخية لتتناسب مع المنظور الصهيوني. ومن هذا المنظو، تقترح هذه الورقة توصيات أساسية لإنشاء إطار عملي يُفعّل التراث الكنعاني من أجل بناء مستقبل ذي سيادة واستدامة.
يُشكل البحث العلمي في علم الوراثة والآثار أساسًا لتعزيز السيادة الثقافية. فعندما تهدف استراتيجيات الاحتلال إلى محو الهوية الكنعانية التاريخية كجزء من محطط محو الهوية الفلسطينية أو تقويضها، فإن الخطابات العاطفية والسياسية وحدها لا تكفي. يجب بناء خطاب علمي قوي من البيانات الأثرية والجينية المعترف بها دوليًا. تشير الدراسات الجينية إلى أن الحمض النووي الموجود في هياكل العصر الكنعاني يُثبت صلة جينية بين الفلسطينيين القدماء والحاليين، وفقًا لبحث تم التحقق منه من قِبل معهد ماكس بلانك لعلوم التاريخ البشري 2023
سيعزز التعاون الأوسع بين المنظمات الفلسطينية ومؤسسات البحث الدولية، والذي يضم علماء الآثار وعلماء الوراثة، التحقق العلمي من صحة السرد الكنعاني، مع الحد من الاستغلال السياسي لعلم الآثار لصالح المصالح الإسرائيلية. إن استخدام هذه النتائج في المناهج التعليمية، ومعارض المتاحف، والنقاشات العالمية سيوفر موارد أقوى للفلسطينيين لحماية تراثهم الثقافي. ويمكن للصناعات الإبداعية والسياحة المتخصصة تحويل التراث إلى موارد اقتصادية قيّمة.
لقد أصبح النهج التقليدي المتمثل في التعامل مع التراث كعبء تاريخي أو عنصر احتفالي محدود الفعالية ومتقادم. وتتمثل الحاجة الحالية في تحويل التراث إلى موارد اقتصادية حقيقية تُدرّ إيرادات وتخلق فرص عمل، مما يؤدي إلى الاعتماد على الذات ماليًا للمجتمعات الفلسطينية. ويشمل تطوير الصناعات الإبداعية المرتبطة بالتراث ابتكار تصاميم مجوهرات مستوحاة من رموز الكنعانيين، وترميم الحرف التقليدية باستخدام الموارد المحلية وأساليب التسويق والعرض المتقدمة.
يمكن توسيع نطاق السياحة الثقافية المتخصصة للسياح المحبين للتاريخ من خلال تطوير برامج سياحية شاملة تُبرز المواقع والمتاحف الكنعانية، بالإضافة إلى مراكز الحرف، مع توفير تدريب تفاعلي على سرد القصص للمرشدين المحليين. ويتطلب مستقبل مستدام لهذه المبادرات إقامة شراكات دولية مع المنظمات الثقافية وصناديق تمويل التراث، وإقامة روابط تعاونية مع الجامعات للحصول على الموارد المالية والتقنية الأساسية التي تضمن استمرار تطوير المشاريع دون الاعتماد على المانحين. – تعتمد حماية التراث العالمي وعرضه على الاستخدام الاستراتيجي للتكنولوجيا.
كما تُعدّ التكنولوجيا شريكًا استراتيجيًا للثقافة في العصر الرقمي، بدلًا من أن تكون أداةً مساعدة. تُمكّن المنصات الرقمية التفاعلية من عرض التراث الكنعاني للجمهور الدولي رغم القيود الجغرافية التي يفرضها الاحتلال والشتات. إن ابتكار ألعاب تعليمية رقمية تجمع بين التعلم والترفيه، كما أثبتت يوبيسوفت ان لعبتها التفاعلية “معالم مصرية” للمستخدمين (يوبيسوفت، 2023)، تتيح للأطفال فرصًا تعليمية جديدة.
الخلاصة: الاستثمار في التراث: ضرورة سيادية واقتصادية
لم يعد الاستثمار في التراث مجرد خيار ثقافي؛ بل أصبح ضرورة سياسية واقتصادية لتعزيز صمود المجتمع الفلسطيني في مواجهة محاولات التهميش والاقتلاع. إن السرد الثقافي المدعوم بالعلم، والاقتصاد الإبداعي القائم على التراث، والتقنيات الرقمية التي تفتح آفاقًا لا حدود لها، تُشكّل جميعها ركائز مشروع استراتيجي قادرعلى استعادة الهوية الكنعانية وتحويلها إلى واقع ملموس.
- د. بيار الخوري، اكاديمي وكاتب في الاقتصاد السياسي ورئيس تحرير الملف الاستراتيجي.
مراجع البحث
Abu El-Haj, N. (2001). Facts on the Ground: Archaeological. Practice and Territorial Self-Fashioning in Israeli Society. University of Chicago Press.
CyArk. (2021). Digital preservation of endangered heritage: The Baghdad Project.
Finkelstein, I. (2020). The Canaanite revival in Israeli archaeology: Political and scholarly implications. Journal of Eastern Mediterranean Archaeology.
Gitin, S. (1998). Tel Miqne-Ekron Excavations 1985–1995: Field reports and analyses.
Haber, M., et al. (2017). Continuity and admixture in the last five millennia of Levantine history from ancient Canaanite and present-day Lebanese genome sequences. American Journal of Human Genetics.
ICOMOS. (2019). Pompeii Global Project: Cultural investment and preservation strategy.
INTERPOL. (2023). Trafficking in cultural goods: Global report.
Max Planck Institute. (2023). Genetic continuity in the Levant: New findings.
PASSIA. (2023). Access restrictions to archaeological sites in Area C.
United Nations Development Programme (UNDP). (2021). Palestine economic monitor: Tourism sector analysis.
United Nations Educational, Scientific and Cultural Organization (UNESCO). (2020). Cultural heritage and sustainable tourism in the Mediterranean.
UNESCO. (2023). Digital India Heritage: Blockchain innovation in cultural documentation.
World Tourism Organization (WTO). (2022). Tourism contribution to Jordanian GDP and local integration models.
World Bank. (2020). Green heritage bonds: Financing cultural sustainability in the global south.
World Bank. (2021). Creative industries as a driver of economic growth: Lessons from the Middle East.
Euro-Med Monitor. (2022). Violations of cultural heritage in the occupied Palestinian territories: Legal and rights-based analysis.
Ubisoft. (2023). Assassin’s Creed: Discovery Tour – Education through immersive heritage gaming.
Tubb, J. N. (1998). Canaanites. British Museum Press.





