ميلادُ المسيحِ الأزليِّ، في الزَّمَن


المهندس ساسين القصيفي

مع كلِّ ذكرى لعيدِ الميلادِ الزَّمَني، للسيِّد المسيح، له كلُّ المَجد، يُردِّد الكثيرون، المفهومَ التقليديَّ لمعنى الميلادِ، لناحيةِ المكان الذي وُلد فيه، تدليلًا على صفاتِ التَّواضُع، الذي أراد المسيحُ، له كلُّ المجدِ، أن يُبيّنَها بظهورِهِ بالجَسد، في مِذودٍ للماشيةِ في مغارةِ بيتَ لحمٍ …
ولكن، هناك الكثيرُ من الدَّلالاتِ الروحيَّةِ والمَعاني اللاهوتيَّة، في المَشهديَّةِ الكِتابيَّةِ للميلاد، أرادَ المسيحُ أن يُعلنَها، لمن يَرغب في سَبْرِ أعماقِ، خِطّة الله في التَّجسُّدِ، المَرسومَةِ منذ الأزل.
فالنبيُّ ميخا، كتَبَ، بِوحْيٍ من “روح الله القدوس “، سبعَةَ قرونٍ قبل الميلاد، نبوءتَهُ في الكتاب المقدس، عن مكانِ ميلادِ المسيح، وعن سلطانِهِ وعن مخارجِهِ الأزليّة:
سِفْر ميخا: 2:5 : أَمَّا أَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمِ أَفْرَاتَةَ، وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ أَنْ تَكُونِي بَيْنَ أُلُوفِ يَهُوذَا، فَمِنْكِ يَخْرُجُ لِي الَّذِي يَكُونُ مُتَسَلِّطًا عَلَى إِسْرَائِيلَ، وَمَخَارِجُهُ مُنْذُ الْقَدِيمِ، مُنْذُ أَيَّامِ الأَزَلِ.
وهنا دلالةٌ واضحةٌ لِتَحقُّق النُبُوءَة بالمسيح، في مكانِ ولادتِهِ الزَّمَنيَّة، وسُلطانِ لاهوتِهِ، وأزليّةِ مخارجِهِ – وليْسَ أزَليٌّ إلا الله وحدهُ – في بلدةِ بيْتَ لحمٍ، حيث ” راحيل “، زوجَةُ يعقوب، سَتَبكي من قبرِها على أولادها، فأعلاها المسيحُ شأنًا بولادتِهِ، كما يَرفَعُ المُتواضعين، كذلك فإنَّ كلمةَ “أفراتة” تعني المُثمِرة، وهي تقعُ على أرضِ سِبْطِ يهوذا، الذي منه ينحدِرُ المسيح بالجَسدِ. وبيت لحمٍ تعني بيت الخبزِ، وهو القائل عن نفسه:”أنا هو خبز الحياة، مَنْ يَأْتِي إِلَيَّ فَلَنْ يَجُوعَ أَبَدًا”، ومَن يَكُنْ المسيحُ في قلبه، لا يعرفُ الجوعَ الروحيَّ أبدًا !!
كما وأنَّ المسيحَ، ألأزليُّ في جوهرِهِ، والمولودُ من الآب قبل كلِّ الدهور، اتّخَذَ جسداً في مِلءِ الزَّمانِ، مولوداً من نسلِ عذراءٍ – دونَ زرعٍ بشريٍّ – والتي حلَّ فيها كلَّ اللاهوتِ، مُتّحِداً بِبِذرَةِ حياةِ المسيح، لِيَدخُلَ الى عالَمِنا الارضيّ، لِيسحَقَ رأس الحيّةِ – الشيطان- كما جاءَ في سفر التكوين، ليَستعيد الخلودَ للجنسِ البشريّ – الذي كُسِرَ بِلَوثِ خطيئة أبينا آدم، بعد عصيانِه وصيَّةَ الله، وانفصالِهِ روحيًّا عن الله- بانتصارِه على شوكةِ الموتِ في قيامتِه المُمَجّدة، مُصالحًا الجنس البشري مع الله.
وهو كذلك القائلُ عن ذاته: قبل أن يكونَ ابراهيم ” انا كائن “، أي موجودٌ بذاته، ومَخارجُه منذ أيّام القِدم، منذ الأزل، لا بداية له.
وَهَذَا كُلُّهُ كَانَ لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ مِنَ الرَّبِّ على لسان النبي إشعيا: وَلكِنْ يُعْطِيكُمُ السَّيِّدُ نَفْسُهُ آيَةً، هَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ «عِمَّانُوئِيلَ» الَّذِي تَفْسِيرُهُ: اَللَّهُ مَعَنَا. إنَّه الله معنا ، الله ظهَرَ على الأرض في الجسد. وهذا الابن أو النسل الآتي، ليسَ مُجرَّدَ بَشرٍ، بل يقولُ عنه الروحُ القُدُس لداود ” يَكُونُ اسْمُهُ إِلَى الدَّهْرِ. قُدَّامَ الشَّمْسِ يَمْتَدُّ اسْمُهُ. وَيَتَبَارَكُونَ بِهِ. كُلُّ أُمَمِ الأَرْضِ يُطَوِّبُونَهُ. ” ( مز72/17 )، فيكون سرمديًّا، ولا يكون لمُلكِه نهاية.
وهو بميلاده الزمني، جُعِلَ مِحورًا للأديان الأُخرى وحتى لِلّادينيّين. فأتباعُ الأديانِ الأُخرى يُفَتِّشون في كتابِ اللهِ العظيم، عَسى أن يعثروا فيهِ على نزْرٍ، لِيُؤكِدّوا مِن خلاله قَويمَ عقائدِهِم، أو لِيُحَوّروا فيه سَديدَ الخِطّة الخلاصيّة او حتّى الاثنين معًا !! واللادينييون، استقوا مبادئ الرَّحمَةِ الإلهيَّةِ اللامتناهيَةِ، من عدلِهِ الكاملِ ومَحبّتِهِ التامّةِ، المَوجودَيْنِ في أساسِ بشارتِه المُخَلِّصَة، ونسبوها زورًا لعقائدِهِم الوضعيّة. كما وشَطَرَ التاريخَ الى قِسمَيْن، قَبلَ الميلادِ وبَعدَه، وانقسَمَ الناس فيه الى فُسطاطيْن: أبناءُ النِّعمةِ المُخَلَّصون، واولئك الذين جَحدوا بِنِعمَةِ الله وضَلّوا، وهذه الفئة خاطبها قائلاً : “أَنْتُمْ مِنْ أَبٍ هُوَ إِبْلِيسُ، وَشَهَوَاتِ أَبِيكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَعْمَلُوا. ذَاكَ كَانَ قَتَّالًا لِلنَّاسِ مِنَ الْبَدْءِ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي الْحَقِّ لأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَقٌ. مَتَى تَكَلَّمَ بِالْكَذِبِ فَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُ مِمَّا لَهُ، لأَنَّهُ كَذَّابٌ وَأَبُو الْكَذَّابِ.” (يو 8: 44)
عِندَ ولادة المسيح بالجسدِ، في مغارةِ بيتَ لحْمٍ، في مِذودٍ للماشية، ظهَرَ ملاكُ الربِّ مُنبِئاً الرُعاةَ في تلك الكورةِ، حيث كانوا يَرعونَ خِرافَهم، تحضيرًا لِذبحِها أضَاحٍ ٍ، في الهيكلِ، في عيدِ الفِصحِ القادِمِ، فأتوا اليه بعد أن سمِعوا ترنيمة الملائكة: «الْمَجْدُ للهِ فِي الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ»، وكأنّ المسيحَ، وهو مُضَّجعٌ ومُقمّطٌ في مذودِ الماشية، أرادَ أنْ يُخاطبَهم قائلاً: كفى أضاح ٍحيوانيّةٍ رمزيّةٍ ! فمِنَ الآن وصاعداً، في عَهدِي الجديد، عَهْدُ النِّعمَةِ، أنا سأكون، الكَبْشَ والحَمَلَ الأضُحِيَة، الذبيحَ الأصيل، المَرْموز إليه، وسَأسفُكُ دميَ، على الصَّليبِ، حَسْبَ خِطَّة الله منذ الأزل، كفّارةً عن خطايا جميع البشر، لخلاصِ مَن يقبَلني. كما وأقبَلَ اليه المجوسُ، حُكماءُ بلادِ فارس، ساجدينَ ومَسُوقين، بالنَّجمِ السَّاطعِ – في دلالةٍ ربّانيَّةٍ الى جوهَرِ لاهوتِهِ، الذي سَيَهتدي بنورِهِ الخَلاصيِّ، جميعُ الأمَمِ – مُحّمَلّين هدايا بثلاثةِ أضلُعٍ ٍ: ذَهَبٌ لانّه ملكُ الملوك، ولُبَانٌ لأنّه رئيسُ الكهنة، ومُرٌّ في إشارة الى عذابِ الجُلْجُثَةِ على الصَّليب. فَبِقدومِ الرُعاة والمجوس، يكونُ المسيحُ قد جمَعَ، في ولادتِهِ، الفقيرَ والغنيَّ، مُتساوِيَيْن في اشتياقِهما للسُّجودِ لِمُشتهى الأجيال، كما وأنَّه عَدَلَ في فتح بابِ النِّعمَة، للُرعاةِ اليهودِ المُؤمنين ولِلحُكماءِ المَجوسِ الوَثنيّينَ، وكأنّه يقول: ” لي خرافٌ أُخَرٌ ليست من هذه الحظيرةِ، ينبغي أن آتيَ بتلكَ أيضًا، فتسمعُ صوتيَ، وتكون رعيةً واحدةً وراعٍ واحدٍ.”(يو 10 :16،
وهو ما زال ” يَعمَل ” الى اليوم، لِيُخلِّصَ نفوساً وشُعوبًا، مَلَكَ الشيطانُ عليها، ما إنْ تَفتحَ قلبَها للنور !
وكلّمَ المسيحُ بالوحي المُقدّس، القدِّيس يوحنا الحبيب في مُقدِّمة بشارته، فَدَوَّنَ: ” في البَدءِ كان (هُوَ) الكلمةُ، والكلمةُ (هُوَ) كان عند الله، وكان (هُوَ) الكلمةُ الله، ” فالمسيحُ الكلمة، هُوَ اللوغوس كما كُتِبَت في اليونانية ” أي عقلَ الله الناطِق او نُطقَ الله العاقِل.
ثم بعدها يُتابِع: والكلمةُ (هُوَ) صار جسدًا وحلَّ بيننا، ورأينا مجدَهُ، مجدًا كما لوحيدٍ من الآب، مملوءًا نعمةً وحقاً.
بهذه الكلمات اللاهوتية العَميقة، لخّصَ المسيحُ في وَحْيهِ للبشيرِ يوحنا، سِرَّ التجسّد الالهي حسب خِطّة الله – الآب والإبن والروح القدس، الإله الواحدُ، الذي لا شريكَ له – المَرسومَة منذ الأزل.
الكتاب المقدس يقول: عظيمٌ هو سِرُّ التقوى، الله ظهَرَ في الجسد.
هللويا!!
زَمَن ميلادي مجيد لكلّ المؤمنين!
اريدُ ان أؤكد، انَّها ليسَت بدراسَةٍ لاهوتيَّةٍ، بل شذراتٌ من بناتِ أفكاري، حسب قراءآتي الدينيَّةِ المُتواضِعَةِ، وفَهمي الشَّخصيِّ للكتابِ المُقدس.
مقالة اعدتُ نشرها بتصرف.
15-12-2024