
إعداد د. إيلي الخوري
١ – التعليم التقليدي وبداية التحول الرقمي
ظلّ التعليم التقليدي النموذج الوحيد والأساسي المُعتَمَد للتعليم ونقل المعرفة منذ البدء، حيث كان يعتمد على التفاعل المباشر بين المعلم والطالب داخل الصفوف الدراسية، باستخدام وسائل تعليمية محدودة. يتطلب هذا النوع الحضور الجسدي اليومي للطلاب، وعلى التلقين المباشر من قبل المعلم، مما يحد من قدرة المتعلم على الوصول إلى مصادر متنوعة للمعلومة أو التفاعل مع المحتوى بسرعة، وهذا يحد من قدرة الطلاب على الوصول إلى مزيد من المعلومات، ومن قدرة المعلم على تطوير نفسه. ورغم استمرار هذا النظام في معظم دول العالم الثالث حتى يومنا هذا، إلا أنه اليوم يواجه تحديات جدية وكبيرة في العصر الرقمي.
من أبرز هذه التحديات على سبيل المثال لا الحصر، الوصول إلى التعليم في المناطق البعيدة عن العاصمة بنفس النوعية والقيمة التي يتم تقديمها في المؤسسات التعليمية الموجودة هناك، ما يحُدث تفاوتاً كبيراً في التعليم بين معظم المناطق في البلد نفسه، بالاضافة الى حصر الصفوف بعرض تقديمي من المعلم نفسه وبالتالي غياب اي تفاعل للطلاب في الصفوف المكتظة. ناهيك عن ان هذا النوع من التعليم، يخلو تماما من تشجيع الطالب على الفكر النقدي، وبالتالي يقلل من جاهزيته للانخراط في سوق العمل مستقبليا بمهارات ومزايا متجددة ومطلوبة.
في السنوات الأخيرة، أصبح من الواضح أن التحول الرقمي لم يعد خياراً، بل ضرورة فرضتها التحديات التي تواجه النظم التعليمية التقليدية، بالاضافة الى بعض الجائحات التي ضربت العالم وعدم الاستقرار الأمني في بعض المناطق والدول التي منعت الطالب والمعلم من الوصول جسدياً للأمكنة المطلوبة. هذا ما واجهه هذا القطاع تحديدا وبشكل غير مسبوق مع جائحة “كوفيد-19″، حيث اضطرت المؤسسات التعليمية إلى تبني التعليم عن بُعد كخيار وحيد لضمان استمرارية التعليم.
فإستناداً الى التقرير الصادر عن منظمة اليونسكو، تأثر أكثر من 1.6 مليار طالب حول العالم بإغلاق المدارس والجامعات خلال هذه الجائحة، مما عجّل في تسريع الاعتماد على التعليم الرقمي ولو حتى بشكل غير منظم وجيد.
لهذه الأسباب، لم يعد الأمر يقتصر فقط على إدخال التكنولوجيا في الفصول الدراسية، بل أصبح يشمل تحولاً شاملاً لأسلوب التعليم، بحيث يكون أكثر تفاعلاً، وانفتاحاً على العالم، وقدرة على الابتكار، بالاضافة الى تقديم عدد أكبر وغير محدود من المراجع، خصوصاً مع تطور الإنترنت وظهور أدوات التعليم الإلكتروني، وتزايد الاعتماد على الأجهزة الذكية.
وهكذا، لم يعد التحول الرقمي خيارًا تكميليًا، بل أصبح ضرورة حتمية لتحديث التعليم وضمان جاهزية الجيل القادم لعصر التحول التكنولوجي.
٢ – مظاهر التحول الرقمي
أدى دخول التكنولوجيا الحديثة في السنوات الأخيرة الى المجال التعليمي، الى تحول وتطور كبيرين في هذا المجال، بحيث جعلت المعلم شريكاً مع الطلاب في توجيههم ومساعدتهم لإكتساب المهارات وليس فقط المعرفة والمعلومات. من أبرز هذه المنصات التعليمية التي تم استعمالها والتي أصبحت أساسية في العديد من المؤسسات التعليمية هي Moodle، Google Classroom، LMS365، Blackboard. هذه المنصات أتاحت للطلاب بشكل كبير الوصول الى المعلومات المطلوبة بسهولة وبأي وقت وأي مكان.
هذه التطبيقات وغيرها، منحت الطلاب والأساتذة، مرونة أكبر في إدارة وقتهم وتخصيص المحتويات والمراجع الدراسية التي تناسبهم، مما منح العملية التعليمية متعة، ما أدى بحسب بعض الدراسات الحديثة الى تحسين كبير في الأداء الأكاديمي وتعزيز قدرة الطلاب على إدارة عملية التعلّم الذاتي.
هذا التطور لم يقف عند هذا الحد، إنما شمله دخول تقنيات حديثة تحتوي على الذكاء الإصطناعي الذي ساعد أكثر في تحليل أداء الطلاب، وتقديم التغذية الراجعة لهم، بالاضافة الى تخصيص محتويات تناسب مستواهم. هذه المحتويات على سبيل المثال، شملت أمثلة واقعية وCase Studies، التي سمحت للطلاب بالتفاعل في محاكاة الواقع، مما يجعل الطالب يضع نفسه في أي مكان صاحب شركة ، أو طبيب، أو محامي، من أجل اتخاذ القرارات والإجراءات. هذا الأمر يثري العملية التعليمية ويزيد من تحفيز الطالب لإكتساب المهارات وترسيخ المفاهيم التعليمية.
باختصار، فإن مظاهر التحول الرقمي في العملية التعليمية لا تقتصر فقط على أدوات أو تقنيات، بل تتعداها إلى تغيير عميق في أساليب التعليم ورسالته، بما يضمن تفاعلاً أوسع بين الطالب والمعلم والى تجربة تعليمية أكثر تماشيا مع متطلبات السوق والحياة الحالية والمستقبلية
٣ – مزايا التحول الرقمي في التعليم
يوفّر التحول الرقمي بمساعدة الذكاء الإصطناعي، قدرة تحليلية كبيرة على دراسة نمط وشخصية والمستوى الفكري للطالب بشكل فوري وسريع، مع تحديد نقاط القوة والضعف له على حدة. هذه الخصائص غير متاحة في نظام التعليم التقليدي، وتأخذ الكثير من وقت المعلم، مما يرفع الكفاءة عند الطالب والمعلم، ويترك للمعلم وقتاً اضافيا ، لكي يستطيع من تقليص الفجوات الأكاديمية دخل الصف.
كما أصبح بمتناول هذه المؤسسات التعليمية بيانات ضخمة وكافية حول الطلاب، تفاعلهم، سلوكهم ومستواهم، ما يمكن ان يساعدهم على تحسين التخطيط الأكاديمي بناءً على معلومات موثوقة وليس تحاليل شخصية، لتتبع التقدم الدراسي، وتوقّع الخلل ان وُجِدَ قبل حدوثه.
أما على صعيد المعلم، وفّر هذا التحول امكانية لتفادي الأعمال الروتينية التي تتطلب وقتاً كبيراً منهم، بالإضافة الى ابتكار طرق بديلة عن الإمتحانات التقليدية مثل العروض التفاعلية والإختبارات الحديثة كمجلات التعلم وأنشطة أخرى. هذا ما وفّر عليهم عمليات التقييم الطويلة وتقديم التغذية الراجعة، مع وضوح في المعايير لهذا الموضوع. أما على صعيد المحتويات الدراسية، فقد ساعد هذا التحول في جعل تحديثات المواد سهلة وسريعة جدًا وفقًا للأخبار والدراسات الجديدة المتعلقة بكل مجال.
وبالرغم من استمرار وجود نواقص وفجوات في البيانات والبنية التحتية في الدول النامية، الا أن الاتجاه يسير نحو الاستثمار والتركيز بشدة على مجال التعليم الرقمي، كخيار مستقبلي وليس فقط استجابةً مؤقتة لحالات طارئة.
فالمزايا التعليمية يمكن تلخيصها بنقاط بسيطة ولكن مردودها يتعدى الى ثباتٍ مستقبلي في التعليم ، من أبرزها:
● تعزيز العدالة التعليمية وتقليص الفجوة المجتمعية
● دعم التعلم الذاتي وتطوير المهارات الشخصية
● تنويع أساليب التدريس ورفع التفاعل
● تخصيص العملية التعليمية باستخدام التحليل الذكي
● تمكين المعلمين وتوسيع فرص الإبداع والتطوير المهني
● تحسين كفاءة الإدارة التعليمية
٤ – إستنتاجات وتوصيات
يمكن الاستنتاج ان التحول الرقمي هو ليس خياراً ترفيهياً او مؤقتاً للإستجابة الى عنصر طارئ، بل هو ضرورة استراتيجية لمستقبل المؤسسات التعليمية حول ما تبقى من العالم. هذا التحول يؤدي الى ضمان استمرارية التعليم في كافة الظروف، بالاضافة الى تحسين أساليب التفاعل الضرورية في عالم أصبح يشبه القرية الصغيرة.
لذا، لتطوير هذه البنية التحتية، من تدريب الكوادر البشرية وتصميم المناهج الجديدة وتوفير الدعم التربوي للطلاب، لا بد من انتاج رؤية استراتيجية كاملة وشاملة، لأن الأمر لا يتحقق فقط من خلال ادخال التكنولوجيا الى الصفوف الدراسية بل يتعداه الى تطوير هذه الخطة.
التوصيات المستقبلية :
● تعزيز الاستثمار في البنية التحتية الرقمية لضمان وصول كافة الطلاب الى ادوات التعلم الحديث
● تدريب فعلي ومستمر للأساتذة لتطوير مهاراتهم في استخدام التكنولوجيا
● الانتباه الى الأطر القانونية والأخلاقية، بما يحمي بيانات ومعلومات الطلاب الشخصية
● تعزيز ثقافة التعليم المستمر من خلال التكنولوجيا، بما يسمح للجميع مهما اختلفت اعمارهم على الانخراط المتواصل في التعليم
إن التحول الرقمي في التعليم ليس فقط تطويرًا تقنيًا، بل هو تحول في الفكر والرؤية والرسالة التعليمية، نحو تعليم أكثر عدالة، شمولية، واستدامة.
لائحة المراجع:
● Hrastinski, S. (2019). What do we mean by blended learning? TechTrends, 63(5), 564–569. https://doi.org/10.1007/s11528-019-00375-5
● Radianti, J., Majchrzak, T. A., Fromm, J., & Wohlgenannt, I. (2020). A systematic review of immersive virtual reality applications for higher education: Design elements, lessons learned, and research agenda. Computers & Education, 147, 103778. https://doi.org/10.1016/j.compedu.2019.103778
● United Nations Educational, Scientific and Cultural Organization. (2020). Education: From disruption to recovery. https://en.unesco.org/covid19/educationresponse
● World Economic Forum. (2020, April 29). The COVID-19 pandemic has changed education forever. This is how. https://www.weforum.org/agenda/2020/04/coronavirus-education-global-covid19-online-digital-learning/





