بقلم دكتور بيار الخوري
يمثّل التطوّر الأخير في عمل النيابة العامة المالية نقطة تحوّل غير مسبوقة في مسار العلاقة بين القضاء والقطاع المصرفي منذ بدء الانهيار في عام 2019.
فطلب القاضي ماهر شعيتو الحصول على كشوفات تفصيلية لحركة الحسابات العائدة لرؤساء وأعضاء مجالس الإدارة ومديري المصارف ومفوّضي التوقيع، وصولًا إلى أزواجهم وأولادهم، يعكس انتقالًا واضحًا من سياسة “إدارة الأزمة” إلى محاولة تفكيك بنيتها وتحديد المسؤوليات الجزائية عن عمليات التحويل والتهريب التي رافقت المراحل الأكثر حساسية من الانهيار.
ولا يمكن فصل هذا التطوّر عن المسار التاريخي للنيابات العامة منذ 2019، إذ اتّسم التعاطي القضائي في السنوات الأولى بالارتباك، وبهيمنة ثقافة اعتبار المصارف “أعمدة الاستقرار”، ما أدى إلى تحويل معظم شكاوى المودعين إلى نزاعات مدنية، وإبقاء عمليات التهريب التي حصلت في الأشهر الأولى خارج أي مساءلة فعلية. ومع تفاقم الأزمة وتعاظم الضغوط الدولية، وخصوصًا بعد دخول لبنان في مفاوضات جدّية مع صندوق النقد، بدأ يظهر تغيير تدريجي في سلوك النيابة العامة المالية، لكنه بقي محصورًا بسقوف قانون السرية المصرفية القديم وصلاحيات هيئة التحقيق الخاصة التي شكّلت عمليًا مظلّة حماية لكبار الفاعلين في المنظومة المالية ـ السياسية.
ما منح خطوة شعيتو بعدها النوعي هو التعديل الذي طرأ على قانون السرّية المصرفية، إذ إنّ التعديلات التي أُقرت بين 2022 و2024 أزالت جزءًا كبيرًا من الحصانات التي كانت تحول دون وصول القضاء إلى المعلومات، ووسّعت الجهات المخوّلة طلب رفع السرّية، وأتاحت التحقيق في الحسابات العائلية والأشخاص المرتبطين وظيفيًا بالإدارة المصرفية. وللمرة الأولى منذ 1956، بات بإمكان النيابة العامة المالية ملاحقة حركة حسابات شاملة بمفعول رجعي من دون انتظار إدانة قضائية مسبقة، وتتبع التحويلات المركّبة داخل لبنان وخارجه. كما بات إدراج الأزواج والأولاد ممكنًا ضمن نطاق الاشتباه، في اعتراف واضح بأن جزءًا من عمليات التهريب جرى عبر الحسابات العائلية وبنية العلاقات الداخلية للمصارف.
ويأتي هذا التطوّر في انسجام دقيق مع ما يطالب به صندوق النقد الدولي منذ 2020، إذ شددت تقاريره على ضعف الحوكمة في القطاع المالي وغياب التحقيقات الفعلية في التحويلات التي جرت في ذروة الانهيار، وعلى ضرورة تحديد المسؤوليات قبل البحث في أي صيغة لتوزيع الخسائر. فصندوق النقد وضع شرطًا واضحًا: لا خطة إنقاذ بلا كشف للمستفيدين من الفوضى المالية، ولا إعادة هيكلة بلا مساءلة. ومن هنا، تكتسب خطوة شعيتو أهميتها بوصفها بداية امتثال حقيقي (ولو متأخر) للمعايير الدولية في الشفافية ومكافحة الفساد المالي، خصوصًا أنّ استثناء السياسيين من الطلب لا يلغي مغزى توسيع دائرة التحقيق لتشمل كبار المديرين ومجالس الإدارات باعتبارهم شركاء مباشرين في القرارات التي ساهمت في تفاقم الانهيار.
وفي هذا الإطار، يبرز السؤال عمّا إذا كان لبنان يشهد فعلًا بداية مرحلة جديدة من إنفاذ القانون بعد تاريخ طويل من المماطلة والالتفاف على النصوص والتعاميم الاستنسابية. فالمصارف للمرة الأولى تشعر بخوف حقيقي، ومصرف لبنان مُلزم بتطبيق الطلب بدل الاحتماء بالسوابق القانونية، في مشهد يعكس اهتزاز قواعد اللعبة التقليدية. ولا يمكن قراءة هذا التحوّل بمعزل عن تجارب دول مرّت بأزمات مصرفية حادّة، مثل آيسلندا بعد 2008، حيث جرت ملاحقة مديري المصارف وكبار التنفيذيين وحاكم المصرف المركزي، وامتدت التحقيقات لتشمل الحركة العائلية للأموال.
وفي قبرص عام 2013، فتحت السلطات تحقيقات في عمليات تهريب نفّذتها إدارات مصرفية عبر حسابات أفراد العائلة، ما أدى إلى تشديد نظام الحوكمة وربط خطط الإنقاذ بكشف مسار الأموال المهرّبة قبل “الهيركات”. حتى في اليونان، التي لم تشهد انهيارًا على طريقة لبنان، اتخذت النيابات العامة الاقتصادية إجراءات مشابهة في تتبع حسابات المقربين من المسؤولين التنفيذيين خلال مرحلة الانكماش الحاد. القاسم المشترك بين هذه النماذج أنّ فعالية نظام المساءلة لا تستعاد إلا بتوسيع دائرة التحقيق لتشمل الدوائر المحيطة بصنّاع القرار، لأنّ التهريب لا يتم دائمًا عبر الحسابات المباشرة.
خطوة شعيتو تقترب في منهجها من هذه التجارب، لكنّ الاختبار الحقيقي سيكون في قدرتها على الاستمرار وعدم خضوعها للضغوط السياسية التي لطالما أطاحت بملفات مشابهة. ومع أنّ الطلب لم يشمل حسابات السياسيين أو الأشخاص المعرّضين سياسيًا، تبقى دلالته شديدة الوضوح: للمرة الأولى منذ 2019 يُنظر إلى القطاع المصرفي لا بوصفه ضحية للأزمة، بل فاعلًا أساسيًا فيها يمكن أن تترتب عليه مسؤوليات جزائية.
واليوم، يقف لبنان أمام لحظة مفصلية. فإما أن تتحول خطوة شعيتو إلى مسار ثابت يُدخل البلاد في إطار المعايير الدولية للمحاسبة، وإما أن تعود المنظومة إلى ممارساتها التقليدية وتتحول الكشوفات المطلوبة إلى ورقة شكلية إضافية في سجلّ طويل من الإفلات من العقاب. وما يجري الآن يوحي بأنّ الهوّة بين الخيارين بدأت تضيق، وأنّ ثقافة “الاستثناء المصرفي” لم تعد قادرة على حماية نفسها، لا محليًا ولا دوليًا





