الملخص : يواجه القيمون على الدولة اللبنانية عدد من التحديات المحورية في مسار تفاوضهم المستمر مع صندوق النقد الدولي، يتمثل هذا التحدي في سعيهم الدائم للهروب الامام بنقل الذمم وكان اخر هذه التحديات صياغة قانون “الفجوة المالية” كجزء من ما يسمى خطة الإصلاح الشاملة لإعادة الاستقرار المالي والنقدي الا انه وبالرغم من ثبوت رأينا بأن الجمهورية اللبنانية لا تعاني من نقص تشريعي بل من انحراف تطبيقي، الا ان هذا المقال يرمي إلى استعراض ملاحظات صندوق النقد على القانون المقترح، وتحليل انعكاساتها على السياسات الاقتصادية والحوكمة في لبنان، وفي الختام وضع آليات عملية لربط هذا النقاش بمسألة المحاسبة واستعادة الأموال العامة المنهوبة، كما ويؤكد المقال الراهن على ضرورة التمييز بين الدولة ككيان اعتباري ومواطنيها من جهة، والمسؤولين المتورطين في اختلاسات أو ممارسات غير قانونية من جهة أخرى، وهو ما يفسّر اعتراض الصندوق على تحميل الدولة الخسائر ومطالبته بالمحاسبة.
إعداد المحامي الدكتور باسكال فؤاد ضاهر
مقدمة
يشكّل قانون الفجوة المالية شماعة مركزية لتوزيع الخسائر الناجمة عن الانهيار المالي اللبناني التي هي بالحقيقة جرائم وارتكابات ومخالفات؛ وبالرغم من ذلك فأنّ مقاربة هذا القانون اصطدمت بملاحظات دقيقة من صندوق النقد الدولي، الذي يسعى إلى ضمان عدالة التوزيع، تعزيز الشفافية، ومنع تحميل الدولة وحدها عبء الأزمة ، هذه الملاحظات تطرح أسئلة أساسية حول الإصلاح البنيوي المطلوب في النظام المالي والاقتصادي اللبناني، خصوصاً مع الفصل بين الدولة التي تمثل الشعب ولم تستفد ككيان اعتباري من الأموال المنهوبة، وبين فئة من المسؤولين الذين جنوا مكاسب غير مشروعة، لا سيما وانه إذا تحملت الدولة الخسائر، فإن المواطنين هم من سيتحملونها من جيوبهم بالمحصلة، بينما المستفيدون الحقيقيون لم يتحملوا أي كلفة.
أولاً: الملاحظات الأساسية لصندوق النقد الدولي
1. غياب آلية واضحة لتوزيع الخسائر: القانون المقترح لم يحدد ترتيباً ملزماً لتحميل الخسائر بين المصارف، مصرف لبنان، الدولة، والمودعين.
2. ضعف حماية صغار المودعين: غياب الضمانات الكافية لحماية المودعين ذوي الحسابات الصغيرة يهدد العدالة الاجتماعية.
3. نقص الشفافية والرقابة: الصندوق شدّد على ضرورة التدقيق المالي والجنائي لتحديد الحجم الفعلي للفجوة ومصادرها.
4. المخاطر على الأصول العامة: الاعتراض على استخدام الذهب أو أصول الدولة لتعويض الفجوة دون إطار محاسبي واضح.
5. التكامل مع قانون إعادة تنظيم المصارف: ضرورة تجنّب التعارض التشريعي وضمان الانسجام بين القانونين.
6. غياب خطة زمنية للتنفيذ: الحاجة إلى مراحل إصلاحية بجدول زمني واضح ومؤشرات أداء.
7. ربط القانون بالإصلاحات الضريبية والمالية: الصندوق يرى أنّ نجاح المعالجة مرهون بتحسين الجباية ومكافحة التهرب.
ثانياً: دلالات الموقف الدولي
تشير ملاحظات صندوق النقد الدولي السالف بيانها إلى أن المجتمع الدولي، ممثلاً بصندوق النقد، يرفض بشكل جازم الحلول السهلة المقدنة من قبل السلطة والمستمرة منذ ٦ سنوات والقائمة على تحميل الدولة ككيان اعتباري والشعب اللبناني ما يسمى الخسائر،
وبما ان الدولة تمثل المواطنين بنهاية المطاف، الذين لم يكونوا من عداد المستفيدين من الانهيار أو التحويلات المالية المشبوهة وما سبق ذلك ورافقه من عمليات مرابحة وترابح، بل المستفيدون كانوا أفراداً من النخب السياسية والمالية، من هنا، يطالب الصندوق بآليات محاسبة تضمن تحميل هؤلاء المسؤولية المباشرة عن الأزمة بدلاً من تحميل المواطنين من خلال الدولة.
ثالثاً: الربط مع استعادة الأموال المنهوبة
تفتح مقاربة صندوق النقد الباب أمام ربط الإصلاح المالي بمسألة الفساد، فالتدقيق الجنائي كأداة لكشف التحويلات غير المشروعة التي جرت في السنوات السابقة هو امر مطلوب، لا سيما وانه قد نتج عنها تحويلات بمليارات الدولارات بعيداً عن الرقابة والتدقيق، بينما كان المواطنون عاجزين عن سحب مدخراتهم.
المصارف والمساهمون الكبار: يرى صندوق النقد بضرورة إلزامهم بتحمل نتائج قرارتهم، خصوصاً أن بعض المصارف استفادت من فوائد مرتفعة على توظيفات لدى مصرف لبنان، كما أجرت تحويلات استنسابية للمحظيين خلال فترة الأزمة.
المسؤولون السياسيون: فتح ملفات الحسابات مرتبطة بشكل وثيق بأسماء سياسيين peps استفادوا بشكل ممنهج من النظام المالي ومن ترابح غير مشروع وتحويل أموال طائلة إلى الخارج خلال وقُبيل فترة الانهيار.
آليات قضائية ودبلوماسية: ترمي الى تعقّب الأموال المنهوبة – المهرّبة بالتعاون مع دول أوروبية وأمريكية حيث جُمّدت بعض الحسابات العائدة لمسؤولين لبنانيين، وهنا يقتضي التوضيح أن هذه الأموال المنهوبة لم تذهب إلى خزينة الدولة، بل إلى حسابات خاصة لمسؤولين ومتنفذين.
رابعاً: توصيات عملية
1. وقف اقتراحات قوانين ترمي الى هدر الثقة الائتمانية والانصياع للاحكام القانونية الناظمة في كتلة المشروعية والتي تتضمن توزيع الخسائر وفق تراتبية واضحة.
2. التأكيد على وجوب رد الودائع لاصحابها من غير الفئة المرتكبة بشكل ملزم.
3. إنشاء لجنة وطنية – دولية لمتابعة التدقيق واسترداد الأموال.
4. ربط إعادة رسملة المصارف بمساهمات إلزامية من المساهمين الكبار.
5. تعزيز الشفافية في المالية العامة والجباية.
6. الدفع نحو آليات قانونية محلية ودولية لمحاسبة المسؤولين واسترداد الأموال المهربة.
خاتمة
إن ملاحظات صندوق النقد الدولي على قانون الفجوة المالية لا تُختزل في متطلبات تقنية فحسب، بل تحمل ابعاداً سياسية وأخلاقية يتعلق بمفهوم العدالة في توزيع الخسائر، وبالتمييز بين الدولة ككيان يمثل الشعب ولم يستفد من السرقات، وبين المسؤولين الذين جنوا أرباحاً غير مشروعة ومن عمليات ترابح ومرابحة من جيوب الشعب والمودعين وحوّلوا أموالاً إلى الخارج، من هنا يتضح منطق الصندوق في رفض تحميل الدولة والشعب الخسائر ومطالبته بالمحاسبة، ومن خلال الاستفادة من هذا الموقف، يمكن للبنان أن يطلق مساراً مزدوجاً: إصلاح مالي – مصرفي من جهة، ومحاسبة واستعادة للأموال العامة من جهة أخرى، بما يرسخ الثقة داخلياً وخارجياً ويمهّد لاتفاق مستدام مع المجتمع الدولي.





