شهدت شبكة الإنترنت العالمية خلال السنة الحالية 2025 موجة غير مسبوقة من الأعطال التي طالت شركات عملاقة مثل مايكروسوفت عبر كراود سترايك، كلاودفلير، منصة Claude للذكاء الاصطناعي وعطل النظام السحابي لأمازون.
وعلى الرغم من أن كل عطل له خلفيته التقنية الخاصة، إلا أن تزامنها خلال فترة قصيرة أعاد فتح النقاش حول مدى اضطراب البنية الرقمية التي يعتمد عليها العالم اليوم في كل شيء تقريبًا. فالمشكلة لم تعد مجرد خلل عابر في خدمة، بل مؤشر على تحول عميق في طريقة عمل الإنترنت وتعرّضه لضغط لم يشهده من قبل.
السبب الأبرز هو أن الخدمات التقنية أصبحت مركزية بشكل مفرط. لم يعد كل موقع أو شركة تعمل وحدها كما كان الحال قديمًا، بل أصبحت عشرات الآلاف من المؤسسات حول العالم تعتمد على عدد محدود من الشركات المشغِّلة. وعندما تتعطل خدمة أساسية في شركة واحدة، فإن تأثيرها يمتد فورًا إلى كل من يعتمد عليها، كما لو أن حجر دومينو واحد أسقط سلسلة ممتدة بلا توقف. هذه المركزية جعلت الإنترنت أوسع وأقوى، لكنها جعلته أيضًا أكثر عرضة للانهيار عند أي خطأ.
العامل الثاني هو الطفرة الهائلة في الخدمات السحابية. كل شيء اليوم بات مرتبطًا بخوادم بعيدة: البيانات، التطبيقات، الحسابات المصرفية، أنظمة التشغيل، وحتى الذكاء الاصطناعي. هذا الارتباط يعني أن أي خلل صغير في السحابة قد يشل مؤسسة كاملة، وأننا لم نعد نملك خط الرجعة القديم حيث كانت الشركات تحتفظ بأنظمتها داخليًا. العالم اختار الراحة، لكنه دفع ثمنًا إضافيًا هو فقدان القدرة على العمل عندما تتعطل السحابة.
في الخلفية أيضًا مشهد متصاعد من الهجمات الإلكترونية التي أصبحت أكثر ذكاءً وتنظيمًا. الهاكر اليوم لا يضيع وقته في اختراق مواقع صغيرة، بل يستهدف الخدمات المركزية التي تخدم ملايين المستخدمين. وهذا يعني أن ضربة واحدة قد تُربك العالم كله. أما المفارقة المقلقة فهي أن جزءًا من الانقطاعات الأخيرة لم يكن بسبب هجمات، بل بسبب أخطاء بشرية داخل الشركات نفسها، حيث أدى تحديث خاطئ أو إعداد غير دقيق إلى تعطيل قطاعات كاملة. التعقيد الهائل للخدمات الحديثة يجعل أي خطأ بسيط يتحول إلى أزمة عالمية.
الأمر الجديد الذي ظهر مع تعطل منصة Claude هو أن طبقة الذكاء الاصطناعي نفسها أصبحت جزءًا من البنية الأساسية للإنترنت. لم تعد الأعطال تطال الشبكات أو الأنظمة فقط، بل وصلت إلى النماذج التي باتت تعتمد عليها الشركات في التواصل وخدمة الزبائن والتحليل وحتى الأمن نفسه. إذا تعطلت هذه المنصات، يتوقف جزء كامل من “العقل الرقمي” الذي بدأ يشغل عالم الأعمال. وهذا تطور جوهري لأنه يكشف أن التكنولوجيا بدأت تبني فوق نفسها طبقات جديدة، وكل طبقة تزيد من حجم المخاطر عند الانقطاع.
السيناريو الأقرب للحدوث هو استمرار هذه الأعطال خلال الفترة المقبلة، لأن البنية التحتية الحالية أكبر وأعقد من قدرة البشر على إدارتها من دون أخطاء. كما يمكن أن نشهد انتقالًا أكبر للصراع بين الدول نحو الفضاء الرقمي، حيث يصبح تعطيل شركة أو منصة عالمية سلاحًا اقتصاديًا وسياسيًا. ومع ذلك، فإن هذه الاضطرابات قد تدفع الشركات الكبرى إلى إعادة النظر في طريقة بناء الإنترنت، وربما الاتجاه إلى تطوير أنظمة أكثر لامركزية وأكثر قدرة على الصمود أمام الانقطاعات، سواء كانت ناتجة عن هجوم أو خطأ أو ضغط غير متوقَّع.
باختصار، نحن لا نعيش أزمة تقنية عابرة، بل مرحلة انتقالية كبرى تكشف نقاط الضعف في عالم رقمي أصبح يعتمد على السرعة والاتصال المستمر. ما يحدث اليوم قد يبدو كارثيًا، لكنه في الحقيقة خطوة طبيعية في رحلة تطور الإنترنت نحو مرحلة جديدة أكثر أمانًا ونضجًا، بعد أن فجّرت الأعطال الحالية السؤال البسيط الذي تجاهله الجميع لسنوات: ماذا يحدث إذا توقّفت التكنولوجيا للحظة؟





