يعتبرُ الفيلسوف الإنكليزي فرانسيس بايكون، في كتابه «الأورجانون الجديد»، انَّ العقلَ البشريَّ محكومٌ باصنامٍ، أهمّها: العاطفةُ والميولُ الشَّخصيَّة، إضافةً الى التَّعليمِ والثَّقافةِ…
وها هي هذه الأصنامُ، تحكُمُ عقولَ النَّاخبِ الأميركيِّ، فتَحصُرَ السِّباقَ الى البيتِ الأبيض، بين رئيسٍ ديمقراطيٍّ ما زال في السُّلطةِ، وقد تجاوَزَ الثمانينَ من العُمر، وبين رئيسٍ جُمهوريٍّ سابقٍ، شكَّكَ بِصِدقيَّة الانتخاباتِ السَّابقة، فيما يسعى اليومَ الى إعادة انتخابِهِ رئيسًا.
حَرِصَ الديمقراطيُّونَ، منذ اليومِ الاوَّلِ لاستلامِهِم السُّلطة، على تشويهِ سُمعةِ ترامب، وذلك بِرَفعِ قضايا، مثلَ التَّشجيعِ على مُحاولَةِ اقتحامِ الكونغرس، إضافةً الى دعاوى فَسادٍ وتَحرُّشٍ وتهرُّبٍ ضَريبيٍّ، وصولًا الى اقتحام رجال الأمن لِمَقرِّ اقامتِهِ الخاصّ، بحجَّةِ احتفاظِهِ بِمَلفَّاتٍ سِريَّةٍ للدولةِ الأميركيَّة. لكن على ما يبدو، فإنَّ اصنامَ العقلِ، من العاطفَةِ والمُيولِ الشَخصيَّة عند الكثيرين، أكسبتهُ ثقةً، وكرَّسَتهُ أوَّلًا، بين المرشَّحين الجمهوريِّين.
من جِهَّتِهم، يُحاولُ الجمهوريُّونَ، التركيزَ على حالَات ضُعفِ الإدراكِ العام للرئيس بايدن، وقد ساعدهم في ذلك، الكثيرُ من المواقف، حيث بدا فيها الرئيسُ، وكأنَّه غيرَ فاطنٍ بما يجري حَوَاليْه. زِدْ على ذلك، فإنَّ الجمهوريِّين، يرفعون شِعارَ ” اميركا أولا” حيث ليس في جُعبَةِ الديمقراطيِّين الكثيرَ للمُفاخَرَة به، لا بالحفاظِ على الرِّيادَةِ في التكنولوجيَّات الحديثةِ والذكاءِ الاصطناعي، ولا في امتلاكِ ناصيةِ انتاج الطَّاقةِ النَّظيفة، ولا حتى في تَوطينِ الصِّناعاتِ مَحليًّا، او زيادةِ التَّصديرِ. فيما العلاقاتُ مع الصين وروسيا، تغيبُ عنها صفاتُ الحَسمِ والحَزمِ. أمَّا سياستُهم في الشَّرق الأوسط، فَيشوبُها الكثيرُ من التردُّدِ، الذي أفضى الى فقدانِ ثقَةِ الاصدقاءِ، وتَرجيحِ كَفَّةِ المُناوئين لهم….
العالمُ كلُّه يَرقَبُ الانتخاباتِ الاميركيَّة، لما لِسَاكنِ البيتِ الأبيض، من تاثيرٍ كبيرٍ على مُجرَيات الاحداثِ في العالم كلِّه، من اوكرانيا الى الشَّرقِ الاوسط، وصولًا الى تايوان وكوريا الشمالية…
من المُبكِرِ استدلالُ أهواءَ الشُّعوبِ في الدُّول الديمقراطيَّة، ونحن ما زلنا على بُعدِ ثَمَانيةَ اشهرٍ من موعدِ الانتخابات، حيث أنَّ الاحداثَ الخارجيَّة، تَتَداخلُ في تأثيرها على أوضاع الداخلِ الأميركي. والكثيرون يترقّبون مآلَ الحربِ في أوكرانيا ومدى انخراط أميركا في الاعمال العسكريَّة في الشرق الاوسط…
باختصار،
أميركا، هذه الترسانةُ من الديمقراطيَّة، والتي أنقذت العالمَ الحُرَّ، من ديكتاتوريَّاتٍ امتَهَنَتِ العُنفَ ونَشرِ ثقافةَ الكراهيَّةِ والعُنصريَّة، ثلاثَ مرَّاتٍ في أقلِّ من قرنٍ واحدٍ، من النازيَّة الألمانيّة وامبرطوريَّة الشرِّ الشيوعيّة والإرهاب الإسلاموي، ما زالت الى اليوم مَدعوَّةً، لتفريغِ ترسانة قوَّتها النَّاعمة، ديمقراطيًّا، لانتشال البشريَّة من ” وباءِ الفَوضَى العَالميَّة ” الآخِذِ في الانتشارِ، في الكثيرِ من البقاعِ.
والمنافسةُ التي تلوحُ في الأفقِ، هي ليسَت بين شخصَيْنِ، بقَدر ما هي بين خِيَارَيْن وسياستَيْن، لا يتأثَّرُ بهما فقط الَّدَّاخلُ الأميريكيُّ، بل يَطالُ أغلبيَّةَ دولِ العالم، في اتِّجاهاتِها السِّياسيَّةِ والاجتماعيَّةِ والثقافيَّةِ والاقتصاديَّةِ والأمنيَّة …
فحبَّذا لو يكون الفائزُ، على قدرِ المسؤوليَّاتِ التاريخيَّة المُلقاةِ على عاتقِ هذه الأمَّة، الأكثَرَ مساهمةً في تطوير البشريَّة، والاقوى عسكريًّا في تصدِّيها لقوى الشرِّ الظَّلاميَّة، وذلك لمتابعَةِ مسيرةِ بناء عالمٍ، أكثَرَ رفاهيَّةً وأقلَّ شرورًا، من خلالِ إعلاءِ قِيَمِ الدَّيمقراطيَّة والتَّسامُحِ بين البشر!
فهل أميركا هي القدَرُ، الذي لا قُدرةَ للعالمِ ان يتفاديه؟!
المهندس ساسين القصيفي





