كلما وقفتُ في وداع شخص عزيز، واعتليت هذا المنبر الحزين في حضرة هذه الوجوه الدامعة، كلما اقترنت الكلمة بالعاطفة، وهبّت عاصفة من المشاعر الصادقة المترافقة مع الغصّات الحارقة.
ونحن اليوم في وداع امرأة صالحة، وزوجة فاضلة، وأم مثالية، وإننا إذ نودعها، نودع أيقونة من المُثل، ونفتقد جوهرة ثمينة لا ولن تُعوّض، ويرحل زمان جميل ليته يعود! وهي إذ تغيب، تغيب معها إضمامة قيم مطبوعة على خدّ الأيام الحلوة.
ولقد سُئلت: هل ستبخل على أم ناظم بكلمة في يوم رحيلها؟
كيف سأبخل على التي تليق بها الكلمة! وقد عشقتها بعشقها الكبير من أربابها، اختارته رفيقًا لدربها.
كيف سأبخل على التي تفانت بالعطاء، وامتازت بالذكاء، وتعطّرت بالنقاء، وعاشت في صفاء.
وقبل أن أتكلّم، شردت لهنيهة متسائلًا، هل أستعين بروح زوجها وعرّابي وبأدبه وأفكاره؟ لا، لا، سأكتفي بثقة محضني إياها في حياته، وبموهبة حباني إياها الله. وسأترك له أن يرتجل بلاغته ومحبته واشتياقه في لقائه الأبدي وفي عليائه مع شريكة حياته، وهكذا بدلاً من أن تهطل عليّ الكلمة من السماء، أرسلتها إلى فوق مرفقة بالتحيّات وخاشعة أمام “الذي في السماوات”، ليتهادى الرثاء بين الوفاء والثناء، ولتعظم الكلمة في حضرة عظمة التواضع.
ولقد عاشت أم ناظم ذلك التواضع، فعجنها الزمان بالكد والتعب والتضحية، ويشهد على ذلك الحنين المجبول بعرق الجبين، وتلك الأطياب الشهية على مائدة الأيام. وذلك التفاني والتعاون مع المرحوم الأستاذ نعيم في تربية العائلة تربية صالحة، وفي توفير الحياة الكريمة، وتأمين أطر التعليم الصحيحة وبلوغ الشهادات العالية.
كما اقتدت أم ناظم بأمنا السيّدة العذراء، التي فقدت ابنها الإله والإنسان، وهي التي فقدت ابنها الأستاذ جورج، ذلك الإنسان الإنسان، وقد واجهت ذلك الفقدان بالصبر والرجاء وبالصلاة والإيمان.
ومنذ اليوم، ستشتاق العائلة، كما سنشتاق، لتلك “الأهلا” المشرقة على شفتيها، وللابتسامة المرتسمة على وجنتيها، وللنور الساطع من عينيها.
وسنشتاق إليها بقدر توقها إلى تمضية فصل الصيف في الضيعة، وتلك اللوحة الضيعوية، حيث الخبز المُقمّر على نار مودّتها تحت شجرة الميس الدهرية ورائحتها الطافحة في حي “وعرتنا”. وذلك التين المُشرّح في “عزّ الصيفية” على سطح الخير والبركة. ناهيك عن موسم قطاف الزيتون الذي كان مع “الست سعاد” يمتد ليجعل تشرين يعانق كانون كي تمكث فترة أطول في القرية قبل أن يقتحم الصقيع الأجواء وتنتقل لتمضي الشتاء في أحضان مدينة الحرف.
وكانت الراحلة قد أقبلت إلى حصارات “المدينة الشعبية” والمستلقية على أكتاف بلاد الحرف، من “بزحل الكسروانية” المُطلة على نهر الجمال والمشرفة على الطبيعة الخلابة.
وهي سليلة عائلة “توفيق كامل” تلك العائلة التي أعطت الدين والدنيا وجمعت العمل والخدمة، ومنها الشقيق المختار وابن الشقيقة سيادة المطران يوحنا رفيق الورشا وابنة الشقيقة الراهبة… وهذا على سبيل المثال لا الحصر، واكتملت مع “سعاد كامل” بإقترانها بأديب وشاعر مكتمل الأوصاف، وهو ابن عائلة عريقة في ضيعتنا فيها الفلاح والمعلم والضابط والجندي… وهو ابن “المختار شهوان”، وحفيد شيخ الصلح وابن شقيقة الكاهن وخال المختار وصهره المختار… وكذلك على سبيل المثال لا الحصر.
وعملت تلك الزوجة الفاضلة مع شريك حياتها “الأستاذ نعيم يزبك” على تأسيس عائلة نفخر بها في حصاراتنا وفي منطقتنا وفي شتّى الحقول في الطب وفي الهندسة وفي الإدارة وفي الإعلام وفي مدرسة الشرف والتضحية والوفاء. وبصمات المهندس “الأستاذ ناظم” مع زوجته المهندسة “جومانا” شاهدة في هذا الصرح الرعوي.
واليوم في وداع هذه الأم الغالية رمز الحنان والأخلاق السامية وصاحبة الطيبة والهامة العالية، ها هي بطاقات العودة من الغربة تُحجز وعلى أجنحة الدمع للمشاركة في وداع الأم، وهذا ما فعله ابنها “الأستاذ رشيد” وابنتها “الدكتورة نحوى” وما قد أصبح نادرًا في أيامنا.
أما ونحن على مشارف عيد الأم فلا هدية للأم هذا العام، بل الأم هي الهدية إلى السماء. تلك السماء التي تشرّع أبوابها مع من سبقها من أهل وأقارب من شقيق وشقيقات، لاستقبالها، وخاصة “الأستاذ جورج” و”الأستاذ نعيم “في دار النعيم.
لروحها الرحمة وللأهل والأقارب طول البقاء وأسمى آيات العزاء.
غانم إسطفان عاصي
حصارات في ٨-٢-٢٠٢٥





