بينما تنهمر الكلمات على أرض الرحيل، ونحن أمام لوحة غياب الكبير وابن الكبار، الفنان العبقري المبدع زياد الرحباني، نرانا أمام شلّال دافق بالوفاء، وعطر عابق بالرثاء، من أصحاب الفخامة والدولة والمعالي، ومن أصحاب السعادة، ومن كل أهل الزعامة… إلى أهل الفن والذوق والأدب والشعر… ورجال الدين والدنيا، إلى الطبيب والمحامي والمهندس والمعلم والجندي والفلاح والعامل… جميعهم بدموعهم بكوك، وعلى شفاههم ودّعوك، وبأقلامهم كتبوك. ومن عصارة أفكارهم رثوك… لتصدح ألحان الحزن على رحيل صانع من صُنّاع الزمن الجميل.
وتحضر التساؤلات: هل يرحل المميّزون؟!
وهل يبتلع الموت آثار المبدعين؟!
وتحضر الأجوبة العفوية، وبنكهة بديهية، بأن هذه النخبة خالدة وباقية وليست بمطوية. وهكذا تنتفي الصعوبة في إستحضار المعاني، لتُجنى المفردات من حديقة غنيّة بالعطاءات، فنجدنا أمام فلذات نثرية نادرة، وقطع شعرية هادرة، ومشاعر إنسانية فظيعة، ومقتطفات فكرية بديعة.
فلقد رحل اليوم زياد، واصطحب معه كنزًا ثمينًا من ذكرياتنا، ونسخة نقيّة من كتاب حياتنا.
ويحضر سؤال آخر: كيف تكتبون عنه، وهل تعرفونه، وهل التقيتم به يومًا…؟!
إن الكبار نعرفهم من خلال أعمالهم، وأعمالهم تدلّ عليهم. فلقد التقينا زياد في كل مكان اختار له فيه ذلك المطرح: في الكتابة، في الشعر، في الألحان، في الصحافة، في الأغاني، في التمثيل وفي الإخراج… وعلى المسرح. ولاقيناه في إرثه الغني ونتاجه الفني.
وعندما يُذكر زياد الرحباني، فهذا معناه أننا أمام ظاهرة فريدة، ومسيرة جديدة، ومواهب عديدة، فيها الفرح وفيها الحزن، على وقع الأغنية والمسرحية والقصيدة… لا بل أمام حكاية مطبوعة بمواقف عنيدة، ومبادئ صنديدة. وهو الذي كما برع في الانتقاد، كذلك عرف كيف يواجه النُقّاد. حتى الذين انتقدوا أفكاره، فلقد زانوا معياره، وثمّنوا مقداره. فاستباقه لقراءة ما يحمله الغد، ما كان ليحدّه حدّ، فلقد كان سابقًا لعهده، ولكن الزمان لم يفِ بوعده.
أما وقد سافرنا إلى عالم مسرحياته، وعلى أجنحة ألحانه وأنغام أغنياته، وقد كنا وعينا على دنيانا، وبدأنا رحلة الحياة “عَ هدير البوسطة…” التي نقلتنا من الأيام الحلوة، إلى “الحالة تعبانة…”، وهاجٓمنا “زمان الطائفية وطائفية وطائفية…”، ويكبر السؤال “بالنسبة لبكرا شو؟” فنصطدم بـ”شي فاشل”، حتى حُرمنا من كل “سهرية”، فإذا بنا وما زلنا أمام “فيلم أميركي طويل”، ونسأل الزمان “ليه عم تعمل هيك؟”، ولماذا جعلتنا نهجر “نزل السرور”؟ ولكن “لولا فسحة الأمل”، لما صمدنا، علّنا نتكلم ““بخصوص الكرامة والشعب العنيد”.
وكيف لا نحكي حكاية سليل العائلة الرحبانية، وشاغل الساحة الفنية، وراسم اللوحات الجمالية، وقد غبّ من النبع الرحباني، ليفجّر ينابيع إبداعية. وهو الذي أُخذ منذ صغره بإبداع والده، وفرادة صوت والدته، وأخذ كل ذلك إلى حيث يريد، كما في: “صوتك رنّان”، “كان غير شكل الزيتون، كان غير شكل الصابون”.
أما اليوم، فقد استيقظت السيدة فيروز وسط ارتفاع حرارة هذه الصبحية التمّوزية، لتقف تحت عتبة الأبواب التسعينية، واستحالت النسمات العليلة رياحًا حزينة:
وهبّ الهوى وبكاني الهوى”، وتدندن: “سألوني الناس عنك يا حبيبي…”، ويجيب الفؤاد: “بيعزّ عليي غنّي يا حبيبي…”، وتغرق في الدمع: “وغمّضت عيوني خوفي للناس يشوفوك مخبّى بعيوني…”، وأخاله معتذرًا من دمعها، قائلًا: “هلّأ صار لازم ودّعكم…”، ويا أمي، من اليوم وصاعدًا: “أنا اللي عليكي مشتاق، مش غيري مشتاق ليكي”.
زياد الرحباني
تُسدل اليوم الستارة على مسرح الحياة، لِتُرفع في مسرح البقاء، وتعبر من أرض الجدود إلى دنيا الخلود، ومن الحياة الفانية إلى الحياة الباقية. فتلتقي بمن سبقك وهم كُثر من أهل وأصدقاء، وتحضر المسرحية في السماء ونصفّق لها نحن أبناء الرجاء، فقد اشتاق إليك عاصي ومنصور وإلياس وليال وجوزف صقر… وتطول القافلة، وما علينا إلا الصلاة والثناء، مع أسمى آيات العزاء، ولروحك الراحة في ملكوت السماء.
غانم إسطفان عاصي
حصارات، ٢٦ تموز ٢٠٢٥





