جيوسياسية هجرة الأغنياء – الصراع الدولي على جذب الأثرياء | بقلم د. خالد ميار الإدريسي

الملف الإستراتيجي

لقد كانت دائما الهجرة من سمات التفاعل العالمي، وأصبحت اليوم ذات دلالة جيوسياسية كبيرة، وخصوصا اذا تعلق الامر بفئة معينة من الناس وهم الأثرياء .ويكمن البعد الجيوسياسي في هجرة أصحاب الثروات، في التأثير المباشر وغير المباشر لهذا النوع من الهجرة ، على دينامية العلاقات الدولية . ذلك أن اختيار بلد معين، لانتقال أثرياء العالم اليه، يفيد صراحة ثقة هؤلاء في تدبير وسياسات ومناخ الاستثمار في ذلك البلد. كما أنه يعني أن الدولة التي اختارها الأثرياء، تضمن لهم نوعا من الرفاهية والأمن ودرجة معينة من الرقي في التعايش. ولهذا فان الدول تتنافس بشدة، لجذب أغنياء العالم اليها، ليس فقط من أجل استثمار أموالهم فيها، وانما كذلك تلميع صورة الدولة، وترويج ” العلامة الوطنية “، واستقطاب الشركات الكبرى .

ووفقا لتقدير شركة “Henley and Partners “، المتخصصة في رصد هجرة الأغنياء، فان عام 2015 ، شهد أكبر هجرة للأثرياء تم تسجيلها، حيت من المتوقع أن يهاجر أكثر من 142000 مليونير، وهذا ارتفاع مهم مقارنة ب 134 ألف سنة 2024 و 110 ألف سنة 2019 قبل جائحة كرونا، ومن المتوقع أن يستمر الارتفاع ، ليصل سنة 2026 الى حوالي 165 ألف مليونير .

واتفق أغلب الخبراء ، على أسباب ودوافع هجرة الأثرياء، حيث يؤكدون على عوامل عدم اليقين السياسي والاضطرابات الاقتصادية والسياسات الضريبية. فالأغنياء يبحتون على دول ذات سياسات ضريبية أقل صرامة و ينجذبون نحو المناطق التي تعتبر “جنات ضريبية ” ، او بلدان تتميز بالمرونة والمزايا الضريبية مثل موناكو وسويسرا والامارات العربية المتحدة.

ولقد دفعت ضريبة الدخل التصاعدية أو ضريبة الثروة، عددا من الأثرياء الى مغادرة بلدانهم، ومثال على ذلك حينما فرضت فرنسا ضريبة بنسبة 75 بالمائة على الدخل الذي يتجاوز مليون أورو سنويا، فغادر الممثل الفرنسي “جيرار ديبارديو ” ، فرنسا متجها الى بلجيكا أو روسيا . كما أن تبني بعض الدول لضرائب مرتفعة ، بسبب تأثير الخطابات الشعبوية ، كان سببا في شعور الأغنياء “بالظلم” وعدم تقدير مهامهم وبالتالي الشعور بالتهديد، ومثال على ذلك أثرت السياسات الاشتراكية في فنزويلا، بشكل سلبي على أصحاب الثروات، مما دفعهم الى الهجرة نحو أمريكا أو اسبانيا.

كما تسببت سياسة فرنسا ما بين 2014-2012 ، حيت فرضت ضريبة 75 بالمئة على الثروة الى هجرة حوالي 42000 مليونير خلال عقد من الزمن، واتجهوا الى سويسرا أو بلجيكا أو المملكة المتحدة، كما انتقل عدد من أثرياء بريطانيا، بسبب الزيادة في الضرائب على الأرباح الى دبي والجزر البريطانية. كما هاجر عدد من أثرياء الهند بسبب ارتفاع الضرائب على الثروة واتجهوا الى سنغافورة أو الامارات. وفي الولايات المتحدة الامريكية، هناك هجرة داخلية ينتقل الأثرياء من ولايات ذات ضرائب مرتفعة مثل كاليفورنيا ونيويورك، الى ولايات تعتمد ضرائب منخفضة مثل فلوريدا وتكساس ونيفادا. ولقد وفر أيلون ماسك نفسه، ملايين الدولارات بفضل انتقاله من ولاية كاليفورنيا الى ولاية تكساس، وهناك من الأغنياء من ينتقل الى بورتوريكو، التي تمنح إعفاءات ضريبية مهمة بموجب قانون “َAct -60 ” للمستثمرين. ومن الملاحظ وفقا لعدة تقارير للخزانة الأمريكية بأن حوالي 6700 أمريكي، تخلوا عن الجنسية الأمريكية تجنبا لارتفاع الضرائب على الدخل والثروة، ويتجه أغلب الأثرياء من أمريكا الى موناكو أو سويسرا أو الامارات العربية المتحدة.

وهناك نقاش سياسي حاد حول موضوع الضريبة على الثروة في أمريكا وعدد من الدول الأوروبية، ولقد اقترحت السناتورة اليزابيت وارن ، فرض ضريبة سنوية على الثروات الكبيرة في أمريكا مثل 2 بالمئة على الثروة التي تتجاوز 50 مليون دولار، مما أثار مخاوف الأثرياء في أمريكا، ويشير تقرير صادر عن « New World Wealth » الى ارتفاع هجرة أثرياء من أمريكا ( أصحاب ثروة تتجاوز مليون دولار) والاتجاه نحو الامارات أو أستراليا. وبالرغم من عدم ارتفاع ضريبة الثروة في الصين مقارنة بالدول الغربية، الا أن أغنياء الصين يهاجرون بسبب الخوف من الحملة الحكومية ، ” الرفاهية المشتركة” التي انطلقت مند 2021 ، والتي توجس منها الأغنياء ويتوقعون ضرائب جديدة على الثروات المهمة.

ووفقا لتقرير “هنلي وشركاه” ففي عام 2023 هاجر أكتر من 10800 مليونير صيني نحو سنغافورة، كما تعتبر هونغ كونغ ملاذا ضريبيا ويستفيد” جاك ما ” ، مؤسس علي بابا من النظام الضريبي المنخفض فيها. ويستثمر الأغنياء الصينيون في شراء العقارات في فانكوفر في كندا و في سيدني في استراليا، ويحصلون على الجنسية بالاستثمار من مالطا وقبرص، حيث هناك تراجع الاستثمار مقابل الإقامة، ووفقا لتقرير « Hurun Report » لسنة 2023 فان الصين لديها عدد أكبر من المليارديرات في العالم ( حوالي 1.133 سنة 2022) ولكنهم هاجروا الى سنغافورة ودبي، كما أشار تقرير New World Wealth الى أن الصين خسرت حوالي 13560 مليونير في عام 2023 ، وبحسب تقديرات « Knight Frank » فان استثمارات الصين في العقارات الدولية مثل لندن ونيويورك و فانكوفر، قد تجاوزت 50 مليار دولار سنويا في الأعوام الأخيرة.

ووفقا لتقرير “هنلي وشركائه ” فان بريطانيا عرفت هجرة حوالي 16500 ثري سنة 2025، مقابل 3200 سنة 2023 أما الصين هاجر منها حوالي 7800 سنة 2025 ، مقابل 13500 سنة 2023 ، تم الهند هاجر منها حوالي 3500 سنة 2025 مقابل 6500 سنة 2023 ، تم كوريا الجنوبية هاجر منها حوالي 2900 سنة 2025 مقابل 800 سنة 2025 وهاجر من روسيا سنة 2025 حوالي 1500 مقابل 3000 سنة 2023 ، وهاجر من البرازيل حوالي 1200 سنة 2025 وهو نفس العدد سنة 2023 ، أما فرنسا فقد عرفت هجرة 800 ثري في سنة 2025 مقابل 1000 سنة 2023 ثم هاجر من اسبانيا حوالي 500 سنة 2025 مقابل 400 سنة 2023 .

وتعتبر جنوب افريقيا الدولة الافريقية الأولى التي يهاجر منها الأغنياء ، حوالي 600 مليونير سنة 2024 ، وتليها نيجيريا حوالي 300 مليونير سنة2024 . ” أما بالنسبة للدول المستقبلة لهؤلاء المهاجرين الأثرياء ، فنجد الامارات العربية (زائد 6700 مليونير ) والولايات المتحدة (زائد 3800 ) وسنغافورة (زائد 3500 ) وكندا (زائد 3900 ) وأستراليا( زائد 3500 ). (انظر موقع 360).

ويؤكد تقرير” هنلي وشركاه ” علي استمرار هيمنة المدن الامريكية علي تصنيف اهم المدن الجاذبة للأثرياء في العالم ، اذ يوجد بها 11 مدينة واولها مدينة نيويورك والتي تحتل الرتبة الأولى عالميا ثم خليج سان فرانسيسكو وفي المرتبة الثالثة عالميا ، وبعدها طوكيو وتليها سنغافورة ثم لوس انجلس ثم لندن ثم باريس ثم هونغ كونغ ثم سيدني ثم شيكاغو. ووفقا للتقرير فان مدينة دبي انتقلت من المرتبة 21 الي المرتبة 18 ، وهو تقدم ملحوظ ، كما عرفت ابوظبي تحسنا في عدد الأثرياء ( + 80%) و مدينة الرياض (+ 65 %). ويقول الدكتور يورغ شتيفن ، الرئيس التنفيذي لشركة ” هينلي وشركائه “، ” ان هناك نمطا واضحا بدأ يتشكل في عام 2025، يتمثل في تفوق المدن التي تجمع بين حرية الاستثمار وجودة الحياة ، في سياق اجتذاب رؤوس الأموال المتنقلة ” كما قال أيضا ” تشترك هذه المراكز الحضرية في خصائص أساسية ، منها وجود اطر قانونية ، وبنية تحتية مالية متطورة ، وربما الأهم من ذلك ، برامج هجرة استثمارية ترحب بالمواهب العالية ورؤوس الأموال ، اذ ان سبعا من اصل اغنى عشر مدن في العالم تقع في دول تتيح الإقامة عبر برامج الاستثمار ، ما يوفر مسارات مباشرة لرواد الاعمال والمستثمرين الراغبين بالوصول الى هذه المراكز المالية “. ( موقع CNBC العربية ).

وعموما فان جذب اثرياء العالم وما يرافق ذلك من انتقال لرؤوس الأموال و نمو اقتصادي ، هو صراع حاد بين الدول وحواضر العالم، وتنافس في توفير بيئة حاضنة ومشجعة للاستثمار ، ومازال امام الحواضر العربية عملا كبيرا ، للوصول الى مستوى منافسة باقي الحواضر العالمية في هذا المجال ، واهم شيء هو توفير جودة في الخدمات و نظافة للمدن و تفعيل سياسات الرقمنة و محاربة الفساد والجريمة و سن منظومة قانونية مشجعة للاستثمار و بنية تحتية و مناطق توفر رفاهية العيش لهذه الشريحة ، لكن ذلك لا يجب ان يكون على حساب الفئات الاجتماعية الأخرى ، ولا ان يكرس سياسة الناقضات المجالية و المفارقات الاجتماعية . فان جذب الأغنياء ورؤوس الأموال المتنقلة ، يجب ان يندرج ضمن سياسة متكاملة لرقي المجتمع ، وضمن ميثاق أخلاقي يوازن بين حقوق الأغنياء والفقراء .