جورج صادق جاهد الجهاد الحسن ورحل.

جورج كريم _ *الروابط*

حمل الذكاء الفطري الجبلي الى الإدارة المدينية واكتسب بسرعة عِلمها وقواعدها وتطبيق مسالك العمل فيها، ثمّ طيّبها بأريحية أهل الجُرد في استقبال المراجعين الغلابى بدفء الأخوّة الهويّة والعاطفة الإنسانية، وهذه صفات يتميّز بها عادة أبناء القرى والبلدات الريفية وتشكل عطراً فوّاحاً من خلال وجودهم في كل دائرة رسمية أو عامة.

إبن بلدة ترتج الجبيلية الجبلية جورج دياب صادق تسلّح بذكائه الفطري الجبلي وقد التحق بالعمل في الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي في فرع الدوره من ساحل المتن الشمالي . وفي وقت قصير صار ملمّاً بجميع أعمال “الفرع” بالإضافة الى إتقان وظيفته الأساسية في وحدة التعويضات العائلية.

يوم انتُدبتُ مطلع عام 1975 من قبل مدير عام الضمان الإجتماعي الدكتور رضا وحيد الى رئاسة فرع الدوره الإقليمي الذي كان يضم أقضية المتن الشمالي وكسروان وجبيل ، استأذن الدخول عليَّ في اليوم الثاني موظف شاب مربوع الجسم متناسق التقاسيم ، على خدّين حمراوين وعينين زرقاوين وهو يتقدم نحوي واثق الخطى، مصافحاً ومعرّفاً عن نفسه:” أنا جورج صادق من ترتج ” وقد سررتُ لقدومك رئيساً . فنحن أبناء منطقة واحدة ، وأنا وزملائي الجبيليين هنا سنكون الى جانبك لإنجاح مهمتك في انقاذ المركز مما يتخبط فيه من فوضى، ونعرف بأنك انتدبتَ لهذه الغاية”.

طلبت من السكرتيرة تأمين القهوة ثم رحتُ أستمع الى “الموظف جورج” ، الذي راح يشرح لي عن أعمال المركز وسير العمل وما فيه من فجوات ، ومشاكل التعاطي مع المضمونين وانجاز معاملاتهم ، ثم توسعنا في الدردشة الجبيلية الى ان ابتسم ، وبكل لياقة وذكاء فطري جبلي قال لي: صحيح اننا من خطين سياسيين مختلفين ولكنهما بيننا كالعينين في الرأس الواحد.”

وقبل أن ينصرف وقد طالت “الدردشة ” قال لي: أنا أنزل من ترتج صيفاً وأصل أحياناً متأخراً والإدارة تحسب تأخرى بالدقائق وتحسمها من راتبي آخر كل شهر؟ وحسمتها فورا مع “الزميل جورج” بأنني سأتحمل مسؤولية تأشيرة بطاقة دوامه صباحاً ولكن ، بالمقابل عليه ان ينجز عددا من المعاملات يزيد عمَّأ هو مطلوب منه. وهكذا سارت الأمور على احسن ما يرام . وكان ل “أبو طارق” حنكته في فضّ المشاكل، وما أكثرها في مركز الدوره ، وبخاصة مع أرمن برج حمود ومع أبناء تل الزعتر، فكان هذا “الترتجاني” بديبلوماسيتة الناعمة يحتضن أي مشكل أو سوء تفاهم يحصل بين أي مضمون والموظف، وصار جورج صادق يعرف بين زملائه” حلاّل المشاكل”.

توطّدت الزمالة بيننا ، وارتقت الى مصاف الصداقة وصار “الصديق” جورج أحد الداعمين الأساسيين في حملات ترشّحي لرئاسة مجلس نقابة الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي، وقد حملني زملائي على دورتين لرئاسة النقابة، وكان جورج من الدعاة والمدافعين عن انجازات “النقابة” في عهدَيّ رئاستي.

جورج صادق، أبو طارق، غادرنا بالأمس الى جوار الصالحين، راضياً مرضياً، آمناً مطمئناً لأنه بقي أميناً على الأمانات حتى الموت فأُعطي إكليل الحياة.

آمن بأن الدنيا دار أولها عناء وآخرها فناء فبادر أجَلَه بعمله وكان عبداً أتْقى ربّه ونَصَح نفسه وقدّم توبتَه.

أحبَّ عائلته، حنا عليها حنو الأب الصالح، وواكب ما أنعم الله على أولاده من نِعَمٍ ومواهبَ . فما تلكأ يوماً عن تلبية حاجاتهم وخاصة تلك التي تتعلق بمستقبل علومهم، فشجع مَن سافر للتخصّص في الخارج ، ودعم من بقي للتحصيل العلمي في الداخل ، واكتملت منظومته الشمسية والقمرية بأربعة القاب علمية هي موضع اعتزاز لهم، لأهلهم ، لأبناء بلدتهم ، لبلاد جبيل ولأصدقائهم وعارفيهم.

وها ، هو الدكتور طارق صاحب جامعة يتخرّج منها المئات من الطلاّب كل سنة ، ويساهم في محو الأمّية ، لأنَّ العِلْمَ يُغني ويُعلي والجهلَ يُذري ويُدني ، وكذلك الأشقاء: الدكتور دياب والدكتورة لونا والدكتورة نضال وكلهم ثمرة جهدِ وتعبِ وسهرِ الراحل العزيز جورج.

يقول النبي داوود: “أيامُ سنينا سبعونَ سنةً ومع القوّة ثمانون، ورغْدها إنّما هو ضررٌ وباطلٌ فإنها قد مرّت بنا مرورَ الطير.”

جورج صادق ، الزميل والصديق والجبيلي الرفيق حمل ” الثمانون” بالامس ورحل.

قبل وفاته بيوم واحد سألت ابنه مسؤول العلاقات الخارجية في التيار الوطني الحر الدكتور طارق عن صحة والده ، فقال لي: ” جسمٌُ ضعيفٌ وعقلٌ نيّر “، وبين السؤال والجواب كان اتصالاً من الوالد جورج بصوت طبيعي وعادي يستدعيه على عَجَلٍ ، ولم يتأخر د. طارق وكانها كانت علامة من علامات الوَدَاع….

رحمات الله عليك أيها الصديق الزميل جورج ، برحيلك تنذرنا بأنه بات علينا أن نلملم أوراق عمرنا ، فقد آن أوان الرحيل. وإنه لا مفرّ من ” إنَّا لله وإنَّا اليه راجعون.”

جبيل في ٢٠ آذار ٢٠٢٥