الملف الإستراتيجي
إعداد د. بيار الخوري
تكشف نتائج اختبارات البرنامج الدولي لتقييم الطلبة «بيزا» لآخر إحصاءات متوافرة (2022)، عن خريطة عالمية متباينة للقوى العقلية والتعليمية، حيث تبرز الفجوات الإحصائية بين الكتل الاقتصادية الكبرى بشكل يتجاوز مجرد أرقام صماء، ليعكس عمق الفلسفات التعليمية والاجتماعية والروابط الوثيقة بين جودة التعليم واستدامة النمو الاقتصادي.
فبالنظر إلى الكتلة الآسيوية التي تتصدر المشهد، نجد أن دول شرق وجنوب شرق آسيا، بقيادة سنغافورة وماكاو وتايوان، قد نجحت في خلق نموذج من التفوق الأكاديمي يفصل بينها وبين أقرب منافسيها الغربيين سنوات دراسية كاملة من التقدم الإحصائي؛ وهذا التفوق لا يُعزى بالضرورة إلى الإنفاق المادي الضخم، بل إلى ثقافة تعتبر الرياضيات ركيزة أساسية للهوية الوطنية، مع التركيز على مبدأ أن الجهد والمثابرة هما مفتاح النجاح، وهو ما يترجم فعلياً إلى قدرة هائلة على قيادة قطاعات القيمة المضافة العالية كأشباه الموصلات والذكاء الاصطناعي، وضمان نمو اقتصادي مستدام يعتمد على العقل البشري كمورد لا ينضب.
في المقابل، تظهر القارة الأوروبية ككتلة غير متجانسة إحصائياً، حيث تبرز حالة دراسية فريدة في إستونيا التي تفوقت على القوى العظمى رغم صغر حجمها، بفضل رؤية الدولة التي تحولت إلى «أزمة رقمية» ربطت المهارات الرياضية مباشرة بالابتكار التكنولوجي.
هذا الربط بين درجات «بيزا» المرتفعة ونسب النمو يظهر بوضوح في قدرة إستونيا على جذب الاستثمارات في قطاع التقنية والشركات الناشئة، بينما تعاني قوى اقتصادية كبرى في غرب وجنوب أوروبا، مثل فرنسا وإيطاليا، من تراجع نسبي في الأداء يضعها تحت المتوسط العام لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
التباين في أوروبا يشير إلى أن التكامل الاقتصادي لا يضمن بالضرورة تكاملاً في جودة المخرجات، وأن الدول التي تتبنى التحول الرقمي والربط بين التعليم وسوق العمل هي التي تحقق مستويات نمو أكثر مرونة واستدامة في مواجهة الأزمات العالمية.
أما في أميركا الشمالية، فإن المفارقة تبرز عند مقارنة كندا بالولايات المتحدة؛ فرغم الارتباط الاقتصادي الوثيق، تتفوق كندا بفارق إحصائي جوهري يضعها ضمن النخبة العالمية، بينما تسجل الولايات المتحدة نتائج متواضعة لا تتناسب مع ضخامة إنفاقها، مما يشير إلى أزمة في عدالة توزيع الجودة التعليمية وهيكلة المناهج.
وبتحليل هذه المشهدية الإقليمية، نستنتج أن الرياضيات، في جوهرها التعليمي، هي تدريب على حل المشكلات المعقدة واتخاذ القرارات بناءً على البيانات، وهي المهارات الأساسية التي تتطلبها نماذج الاقتصاد الحديث.
وبذلك، تصبح خريطة التفوق في الرياضيات هي نفسها خريطة النفوذ الاقتصادي المستقبلي، حيث تثبت البيانات أن كل تحسن في مهارات الطلاب يتبعه نمو مطرد في نصيب الفرد من الدخل القومي، مما يجعل جودة التعليم الضمانة الوحيدة للانتقال من الاقتصادات التقليدية إلى اقتصادات المعرفة القادرة على البقاء والازدهار.
تُعدّ قضية العدالة التعليمية والعلاقة بين الوضع الاجتماعي والاقتصادي ومستوى التحصيل الدراسي المتغير الأكثر تأثيراً في استدامة النتائج المحققة؛ ففي الكتل المتفوقة مثل شرق آسيا، نجد أن الفجوة بين الطلاب الأغنياء والفقراء هي الأقل عالمياً، حيث تضمن الدولة وصولاً متساوياً لأفضل المعلمين والموارد، مما يجعل النجاح الأكاديمي «مصعداً اجتماعياً» فعالاً لا يعتمد على خلفية الطالب المالية.
وفي المقابل، تظهر البيانات في الولايات المتحدة وبعض دول أوروبا الغربية فجوة طبقية حادة، حيث يتمركز التفوق في المدارس الممولة جيداً في المناطق الثرية، مما يخلق نوعاً من «توريث التخلف الأكاديمي» في المناطق الأقل حظاً. هذا التفاوت يهدد استقرار الدول الاقتصادي طويل الأمد عبر خلق قوى عاملة منقسمة المهارات، مما يؤدي إلى توسع فجوة الأجور وإعاقة الحراك الاجتماعي.
وبذلك، يظل الاختبار الحقيقي لاستدامة النمو ليس فقط في تحقيق درجات مرتفعة، بل في قدرة النظام التعليمي على ردم الهوة بين طبقات المجتمع، وضمان أن عبقرية الرياضيات ليست امتيازاً مخصصاً لمن يملكون الثروة، بل حقاً متاحاً لكل عقل مبدع.
أخيراً، تجدر الإشارة إلى أن هذه الاستنتاجات الإحصائية ستكتسب قوة مضاعفة لو توفرت قاعدة بيانات موحدة وشاملة لمؤشرات التعليم التكاملي المعروف بـ STEM (العلوم، التكنولوجيا، الهندسة، والرياضيات) ككتلة واحدة؛ فعلى الرغم من أن اختبارات «بيزا» تقدم قراءات دقيقة للرياضيات والعلوم بشكل منفصل، إلا أن غياب إحصاء تكاملي يقيس قدرة الطلاب على دمج هذه التخصصات في سياق ابتكاري يترك حلقة مفقودة في فهمنا الكامل للجاهزية الاقتصادية.
إن إدراج مؤشرات STEM الشاملة من شأنه أن يعزز دقة التنبؤ بالنمو، لأن القوة التنافسية للأمم اليوم لا تعتمد فقط على «كم» المعرفة الرياضية، بل على كيفية تحويلها إلى حلول هندسية وتقنية من أجل تنمية مستدامة.





