المهندس ساسين القصيفي
مِنْ على شواطئِ دولِ البَّلطيقِ الثلاث، الى حدودِ شِبْهِ الجزيرةِ الأيْبِيرِيَّةِ على الأطلسيِّ، الى جزيرةِ قبرصِ في المُتَوسِّطِ، أنتَخَبَ أكثرُ من 360 مليون أوروٻيٍّ، الأحَدَ الماضي، بانتظامٍ تامٍّ، أعضاءَ الٻَّرلُمَانِ الإتِّحاديِّ، المُكَوَّنِ من 720 عُضوًا، حيثُ تَتَمَثَّلُ كلُّ دولةٍ، مِن ال 27 المُنضَويَةِ ضِمنَ الإتِّحادِ، بطريقةٍ نسبيَّةٍ. وهذا الٻَّرلمانُ يُشرِفُ على الميزانيَّةِ العامَّة، ومِنهُ تَنبَثِقُ القرارتُ الإتحاديَّةُ، عبرَ المفَوَّضيَّةِ الأوروٻيَّةِ، والتي هي كنايةٌ عن وزارةِ خارجيَّةٍ للإتحاد.
وأظهَرَتِ النَّتائِجُ الإنتخابيَّة، تَبَدُّلًا مَلحوظًا، في اتِّجاهاتِ النَّاخِبِ الأُوروٻيِّ، نحو اليَمِينِ، في تعبيرٍ عن تَوَجُّساتِ الخَوْفِ. مِمَّا انْعَكَسَ انخِفاضًا في نسبةِ التَّأيِّيدِ، للأحزابِ اليَساريَّة والخُضُر، وتَتَرجَمَ تَقَدُّمًا بَيِّنًا للإحزابِ اليَمينيَّةِ. فيما حافَظَ ” الوَسَطيُّون” على الأغلبيَّةِ، ضمنَ الٻَّرلُمانِ الأُوروٻيِّ.
وكانتِ الحملاتُ الانتخابيَّةُ قد ركَّزت على الوضعِ الإقتصاديِّ وخريطةِ النُّهوضِ به، وعلى الحربِ في أوكرانيا والموقفِ الأوروٻيِّ منها، إضافةً الى أمورِ الهِجرةِ والإرهابِ وكيفيَّة التَّصدّي لهما. كما وأنَّه كان لقضايا مثل، المناخِ والبيئةِ وزواجِ المِثليِّين… حِصَّةً في الحَمَلاتِ الانتخابيَّة.
وفي دولٍ مثلَ بلجيكا والنمسا وهولندا وايطاليا…أو في ألمانيا وفرنسا، وهما البلدان المِحوَرِيَّان ضمنَ الإتِّحادِ الاوروٻيِّ، أحرَزَتِ الأحزابُ القوميَّةُ واليَمِينَيَّةُ، مكاسبَ كبيرة، وظهرَت وكأنَّ اليمينَ باتَ قوَّةً رَئيسَةً، فيما بَدَتِ الأحزابُ التقليديَّةُ وكأنَّها ذَبُلَت وتَرَهَّلَت، ولم يَعُد لديها جديدًا لتُقدِّمَهُ، فَتَرَاجَعَ تمثيلُها. وانسجامًا مع هذه النتائجِ، وتماشيًا مع التَّقاليدِ الديمقراطيَّةِ، أسرَعَ الرئيسُ الفرنسيُّ، في اليوم نفسِهِ، الى حلِّ الٻَرلُمانِ الفرنسيِّ، والدَّعوةِ الى انتخاباتٍ تشريعيَّةٍ، ضِمنَ مُهلَةِ شَهرٍ، لِتَكوينِ سُلطَةٍ تنفيذيَّةٍ، مُتجانِسَةٍ مع رغَبَاتِ الشَّعبِ، الذي هو مَصدرُ كلِّ السُّلُطَاتِ. وفي نفس الإطار، قدَّمَ رئيسُ وزراءِ بلجيكا استقالتَهُ…
مِنْ إيجابيَّاتِ الدِّيمقراطيَّةِ، تعبيرُ الشُّعوبِ عن هواجسِها وتَطَلُّعاتِها، عبرَ صناديقِ الاقتراع. وبذلك، تُصبحُ إمكانيَّةُ، تَصْويبِ المَسَاراتِ، وتغيِّيرِ المسؤولين أو إصلاحِ المؤسَّساتِ، واضحةً، في إطارٍ مؤسَّساتيٍّ دُستورِيٍّ مَعلُومٍ، دونَ الحاجَةِ، إلى حِوَارٍ عَقيمٍ أو تَوَافُقٍ بَليدٍ.
وفي العودَةِ الى واقعِنا المأزومِ، على أغلبيَّةِ جُغرافيا مُجتمعاتِ الإقليمِ، نَلْحَظُ أنَّ نسبةً كبيرةً من العَّامَّةِ، ما بَرِحَت تَسيرُ في الإتِّجاهِ المُعاكِسِ للتَّاريخِ، حيثُ أصبحتِ،
الأحاديَّةُ الفكريَّةُ، هي النَّمَطُ السَّائدُ، في الفَضَاءِ العَّامِّ،
ومَنهَجيَّةُ التَّكفيرِ هي الرَّائجَةُ، حتى عندَ فئةِ الأنتلِّجَنْسيا،
بينما ثقافَةُ الدِّيمقراطيَّةِ، أضْحَت مَنبوذةً، حتى لدى الكثيرين منَ النُّخَبِ.
باختصار، لم يَعُد المشهدُ يحتاجُ الى كبيرِ شَرْحٍ،
فَجُلَّ المفاهيمِ السياسيَّةِ، قد شُوٍّهَت مَقاصِدُها، وأُفرِغَت من مَضامينها السَّامية، في هذا الإقليمِ البائسِ.
فالديمقراطيَّةُ، تُمارَسُ طُغيانًا مِن كُلِّ أكثريَّةٍ. فيما يومُ الانتخابِ، تَحَوَّلَ الى غَزوةِ الصناديق، في بيانٍ جَليٍّ لثقافةِ القبيلة.
من جهة أخرى، فإنَّ عناقيدَ الوَهْمِ، المُتدلِّيَةِ من تاريخٍ عابرٍ وَزَمنٍ غابرٍ، ما انفكَّت تَعصُبُ العيونَ وتُكبِّلُ العقولَ. فانحرَفَ غالبيَّةٌ من المُختارينَ، وَأسَّفَ جُمهورٌ مِنَ المُصطَفِين. فانتهى الإقليمُ، الى مساحاتٍ مُشرذَمَةٍ وإلى فئاتٍ مُتناحرةٍ، ما زالت تَعِكُّ بأسبابَ التَّخَلُّفِ الحَضَارِيِّ، وقد تَلَبَّسَها الجَهْلُ المَعْرِفيِّ!
دهرٌ كالحٌ مَضى، فمتى تُوشِمُ السماءُ بَريقَ أمَلٍ؟!
أَليْسَ هناك خِدْفَةُ نورٍ، مُشْرِقَةً من بينِ ثَنَايا العَقلِ وحَنَايا التَّاريخِ، في هذا الإقليمِ النَّزيفِ!؟
أكادُ أجزُمُ أنَّ الأمرَ صارَ مُحَالًا، في المَدى المَنظورِ !!





