المهندس ساسين القصيفي
من وَحْيِ التطوُّراتِ الإقليميَّةِ، رَغِبْتُ في هذه العُجالةِ أنْ اُضيءَ، على مُكوِّناتِ الوِجدانِ المارونيِّ والمَسيحيِّ، في هذا الشَّرقِ، إنطلاقًا من فهمي المُتواضِع لتاريخِ هذه المنطقة مع سَيْرُورَةِ شعوبِها.
فَرَضَتِ الظروفُ السياسيَّةُ والتاريخيَّةُ والإجتماعيَّةُ والدينيَّةُ… في هذا الإقليمِ، دُوَلًا ديكتاتوريَّةً، خاصَّةً في القُرون الثمانيَةِ، التي سَبقت القرنَ العِشرين، ابتداءً من دولةِ المماليكِ الظَّالمةِ سنة 1250م، وليس آخِرًا مع دولةِ الخِلافةِ العُثمانيَّةِ القاهِرةِ، والتي سقَطَت سنة 1923م. وكانتْ ردَّاتُ فِعلٍ، من المَسيحيِّين عامَّةً والمَوارنةِ خاصَّةً، في هذا الشَّرقِ، على هذا القهرِ المُستدامِ، والتي طبَعَت سَريرَتَهُم، تَّمرُّدًا على الظُّلمِ، ومقاومَةً في عُشقِ الحريَّة…
ومن هنا، كانَت، الجبالُ مَلْجَأَهُم الآمنِ من بَطشِ الجيوشِ، والوِديانُ والمغاورُ مَلاذهُم المَوثوقِ في رفضِ الخُضوعِ لأحكامِ الذِّمَّةِ المُهينَةِ للكرامةِ الإنسانيَّة، وذلك على امتدادِ جغرافيَّةِ انتشارهِم، من وادي النَّصارى في سوريا، الى ضفافِ نهرِ العاصي، الى وادي القدِّيسين في لبنان، الى كلِّ قريةٍ وَضَيْعَةٍ نائيةٍ في أعالي الجبالِ، حيثُ فتّتِ الأجدادُ الصخورَ، فَزَرَعُوا وما جاعُوا، وحفَروا أبارًا، فشَرِبُوا وما عَطِشوا، ولم يَذعَنوا…
من جهةٍ أُخرى، كانت لِعَلاقَةِ الكنيسةِ المارونيَّة، تنظيميًّا وتَراتُبيًّا بالمؤسَّسةِ الأُمِّ في روما، ومن خلالها بالحضارةِ الغربيَّةِ المُتطَوِّرةِ، تأثيرًا إيجابيًّا كبيرًا على مسيحييِّ الإقليمِ، واستطرادًا على مُعظَمِ سُكَّانِ هذا الشَّرقِ. إذْ مَعَ تأسيسِ المَدرسَةِ المارونيَّةِ في روما سنة 1584م، والتي كانَ جُلّ طلَّابِها من لبنان وسوريا والأراضي المقدَّسةِ، إضافةً الى موارنةِ قبرص، الذين هُجِّروا زمَنَ إضطهادِ المماليك… فَتَوَارَثُوا، جيلًا بعدَ جيلٍ، أسُسَ المَعارفِ والعلومِ والثقافةِ والفنونِ الأوروبيَّة، والتي أشَعَّت بدورها في هذه الناحيةِ، التي كان العثمانيُّون، قد نشروا فيها البؤسَ والحرمانَ مع الجَدْبِ الثقافيِّ والحَضاريِّ، حيث لا مَطبعة ولا جامعَة ولا مَسرَحا …مِمَّا حوَّلَ هؤلاءِ الفُرسانِ الدَّارسينَ العَالِمينَ، الى رُوَّادٍ للنهضَةِ الثقافيَّةِ في مُحيطِهم، خاصَةً بعدما ترهَّلت الدولَةُ العثمانيَّةُ، ابتداءً من منتصفِ القرنِ التَّاسِعِ عَشَر.
وفي هذا السياقِ، تأتي ظروف نشأةِ لبنان، منذ أكثر من قرنٍ، والذي تأسَّسَ، وحيدًا في هذا الشَّرقِ، على مبادئِ الشَّراكَةِ بين مُكَوِّناتِهِ، في حريَّة الفكرِ والعقيدةِ… فكانَ واحةً في الإزدهارِ والديمقراطيَّةِ، ومركزًا للعلومِ والتَّقدُّمِ الفكريِّ والإجتماعيِّ والاقتصاديِّ… حيثُ كان يُصدِّرُ خُبُراتِهِ وخُبَراءه، الى الشَّرقِ والغرب.
وفي اللاوعيِّ الفكريِّ، وعند كلِّ لحظةٍ تاريخيَّةٍ، يَطرَحُ المسيحيُّونَ السُّؤالَ الهاجِسِيَّ: ما هو تَمَوْضُعُ لبنان، وما هو دورُهم في هذا اللبنان؟
هكذا كان السؤال،
مع المَدِّ الناصريِّ، والذي عَجِزَ عن طمأنةِ المسيحيِّين الى دورهِم الفاعلِ، في الحِفاظِ على حريَّتِهِم. وكانت هواجسهُم مُحقَّةً.
وكذلك مع الإنفلاشةِ الفلسطينيَّةِ، والتي استباحَتِ السِّيادةَ الوطنيَّةَ، فَكانت الحربُ الأهليَّةُ، مَعَ مآسيها قتلًا وتهجيرًا. فدافعَ معظمُ المسيحيِّين عن وجودِهِم، وكانَت مقاومَتُهُم مُوجِبَةً.
وكان هذا التساؤلُ مطروحًا، معَ اتِّفاقِ الطَّائف، ومَعَ اغتيالِ الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وبعدَ خُروجِ جيشِ النظامِ البَعثيِّ من لبنان سنة 2005، ومع حرب الإسنادِ، والتي دمَّر وقتَّلَ العدُوُّ الإسرائليّ فيها كثيرًا، الى انتِخابِ العمادِ جوزيف عون رئيسًا وتشكيل الحكومَةِ…
وأخيرًا، وإن كان الزمنُ بَدَأَ يتغيَّرُ، وأولويَّاتُ شعوبِ المنطقَةِ، تأخُذُ طريقها باتجاهاتٍ أُخَرٍ، إلّا أنَّ الهُوِّيَّاتِ الطائفيَّةَ والمَذهبيَّةَ،في هذا الإقليم، ما زالت هي الفيْصلُ في العلاقاتِ بينَ هذه الشَّعوب ، وخاصَّةً عند كلِّ استدعاءٍ لحادثةٍ تاريخيَّةٍ…
وما زلنا نتلمّسُ طريق الخلاصِ، والسَّلام…





