في خضمِّ التحوُّلات الرقمية المُتسارعة، ومع الصعودِ الكاسح للذكاء الاصطناعي بوصفه لغة العصر الجديدة، يبرزُ سؤالٌ جوهري يتجاوز حدود التقنية ليطال جوهر الثقافة والهوية: هل ستجد اللغة العربية مكانها في هذا العالم الذكي، أم ستُدفَعُ إلى هامشه باسم الحداثة والابتكار؟ غير أنّ هذا السؤال، في جوهره، لا ينبغي أن يُطرَحَ بصيغة الاستبدال، بل بصيغة التمكين؛ فالعربية ليست عبئًا على التكنولوجيا، بل موردًا معرفيًا قابلًا للتفعيل إذا ما أُحسِنَ إدخاله إلى قلب المنظومات الرقمية.
إنَّ تمكينَ اللغة العربية رقميًا يبدأ بالاعتراف بأنَّ بنيتها اللغوية تمتلك من العمق ما يؤهّلها للتفاعل مع الخوارزميات الذكية. فالنظام الاشتقاقي القائم على الجذور والأوزان يمنح العربية قدرةً فريدة على توليد المعاني، وهو ما يتقاطع جوهريًا مع منطق الذكاء الاصطناعي القائم على تحليل الأنماط واستخلاص العلاقات الدلالية. حين تُفهَمُ الكلمة العربية بوصفها جُزءًا من شبكةٍ معنوية لا مجرّد وحدة مستقلة، يصبح من الممكن بناء أنظمة فهم آلي أكثر دقة، قادرة على إدراك السياق لا الاكتفاء بترجمةٍ سطحية للنصوص.
غير أنّ الخلل لا يكمن في اللغة، بل في مقاربة التكنولوجيا لها. فمعظم الحلول الرقمية الحالية تتعامل مع العربية كلغة “مُعرَّبة”، أي بوصفها نسخة لاحقة عن نماذج صُممت أساسًا للغات أخرى. هذا النهج لا يختزل العربية فحسب، بل يُفرغها من خصائصها البلاغية والثقافية. إنّ التمكين الحقيقي يقتضي تطوير نماذج لغوية عربية أصيلة، تُدرَّب على نصوص عربية عالية الجودة، وتستوعب المجاز، والإيقاع، وتعدّد الدلالات، بدل إخضاع اللغة لمنطق تقني غريب عنها.
وفي هذا السياق، تبرز البلاغة العربية والسرد القصصي بوصفهما جسرًا طبيعيًا بين الإنسان والآلة. فبينما تميل التكنولوجيا إلى الجفاف والاختزال، تمتلك العربية قدرة استثنائية على إضفاء البُعد الإنساني على الخطاب الرقمي. يمكن للواجهات الذكية، والمساعدات الافتراضية، ومنصّات التعليم المعزّزة بالذكاء الاصطناعي أن تتحوّل من أدوات تقنية صامتة إلى وسائط تواصل حيّة، إذا ما صيغ خطابها بلغة عربية تنبض بالمعنى، وتحاكي التجربة الإنسانية بدل أن تُسطّحها.
ولا يقلّ التراث العربي أهمية في هذا المسار؛ فإلى كونه ماضيًا ثقافيًا، هو مخزونٌ معرفي ضخم يصلح ليكون مادة تدريب مثالية للأنظمة الذكية. فالنصوص الفلسفية، والأدبية، والفقهية، والشعرية تُشكّل بيانات عالية القيمة، قادرة على تعليم الآلة أنماط التفكير، والاستدلال، والتأويل، لا مجرد التعرّف الآلي إلى الكلمات. غير أنَّ تحويل هذا التراث إلى قيمة رقمية يتطلّبُ جهدًا منهجيًا في الرقمنة، والتصنيف، والتحليل الدلالي، بعيدًا من التقديس غير المُنتِج لتاريخ اللغة.
أما في ميدان التعليم، فإنَّ أخطر ما يمكن أن تواجهه العربية هو أن تُقدَّم بوصفها لغة مناهج تقليدية في عالم رقمي متحوِّل. التمكين هنا لا يعني إحلال التكنولوجيا محل اللغة، بل جعل العربية لغة التفكير داخل البيئة الرقمية نفسها. حين تُشرَحُ المفاهيم التقنية بلغة عربية واضحة، وحين يُدرَّب المتعلّم على التفكير النقدي بلغته الأم، تتحوّل العربية من مادة دراسية إلى أداة فهم للعالم، ومن إرثٍ ثقافي إلى كفاءةٍ معرفية.
لا يمكن الحديث عن تمكينٍ رقمي للغة العربية من دون بناء اقتصاد محتوى عربي ذكي، يعامل اللغة بوصفها قيمة إنتاجية لا مجرد وعاء للاستهلاك. فالمحتوى العربي عالي الجودة، المدعوم بأدوات الذكاء الاصطناعي، قادر على خلق مساحات جديدة للإبداع، والمعرفة، وريادة الأعمال، شرط أن يُبنى على فهمٍ عميق للغة لا على استنساخ نماذج جاهزة.
إنّ اللغة التي لا تدخل الخوارزمية تخرج من المستقبل، لكن اللغة التي تُختَزَل داخلها تفقد روحها. وبين هذين الحدّين، يقف مشروع تمكين اللغة العربية رقميًا بوصفه رهانًا حضاريًا، لا يهدف إلى حماية الماضي بقدر ما يسعى إلى ضمان حضور العربية في صناعة الغد، لغةً للتفكير، والتعبير، والابتكار.





