الخرائطُ المُمَزَّقةُ| المهندس ساسين القصيفي

لا منطقٌ يحكمُ هذا الإقليمَ. لا بيانٌ يقودُ مسرحَ الصراعاتِ العبثيَّةِ. لا آمالٌ بِغَدٍ أفضلَ. فتحوَّل هذا الشرقُ البائسُ، منذ نيِّفٍ وقرنٍ، إلى نهبٍ لسرديَّة العنفِ المستدامِ.
دَعْ عنْكَ الكذبَ الصَّادقَ فإنَّك أنَّى يمَّمْتَ بوجهكَ نحو الروحِ العميقةِ للجماعاتِ المختلفةِ، تَلمُسُ ترسانةَ الكراهيَّةِ وجاذبيَّةَ الثأرِ.
خرائطٌ ممزَّقةٌ. دولٌ متصدِّعةٌ. مكوِّناتٌ خائفةٌ. معاركٌ بين حروبٍ. وهُدُناتٌ مؤقَّتَةٌ لا تَنبثقُ إلا من خلالِ شلَّالاتِ الدَّمِ.
هذا هو الواقعُ، والناظرُ الى التاريخِ، لا يلمحُ إلا الأطلالَ مع ذكرياتِها المُفجعةِ.
وكأنَّ المكانَ لم يعُدْ يَتَّسعُ للجميعِ. فترى الحروبَ وجوديَّةً، لكلِّ طرفٍ. فلا بُدَّ من جُثَّةٍ للإستكانةِ. فهذا يغدُرُ بِجارِهِ المُختلفِ، وذاك يُجرِمُ مع أخيه في الوطنِ، وذلك ينتظرُ جثَّةَ عدوِّه على ضفَّةِ النهرِ. إنَّه التاريخُ بأمثولاتِه الصَّارمةِ.
وإذا ما سَبَرنا أغوارَ النفسِ الجَمعيَّة، لمعظمِ المكوِّنات الطائفيَّةِ والمذهبيَّةِ والعرقيَّةِ في هذا الإقليم، تنبلجُ أمامَنا، أمراضُ تعظيمِ الذاتِ ولعنِ الآخر المختلف. فتَنسُجُ كلُّ فئةٍ سرديَّتَها في المظلوميَّة، فَتَرتفعُ حواجزُ الخوفِ والرَيْبةِ والخِصامِ تُجاهَ الآخر، أعلى من حدودِ الإنسانيَّة.
وفي كُمُونٍٍ عن الأنظارِ، نشأتْ أجيالٌ وهي تقرأُْ في أضابير هذا الماضي المُشوَّهِ، وعندَ كلِّ منعطفٍ مُؤاتٍ، تُعبِّرُ هذه المجتمعاتُ السقيمةُ، عن كلِّ حقدِها المكبوتِ وكلِّ غلِّها المَكنونِ، فَتَندَلعُ أعمالًا إرهابيَّةً، من كلٍّ حَسَبَ قُدرتِهِ.
إنَّها لوحةٌ كئيبةٌ، ارتُسِمَت بين ثنايا التاريخِ وخبايا الزمن. وليس هناك من يَجرؤ، على مراجعةِ الفهرسِ الواضحٍ للأفكارِ المُؤسِّسَةِ لهذا الجحيم.
باختصارٍ،
هذا هو سَرابُ الدولةِ الوطنيَّةِ أو العقائديَّةِ او المذهبيَّةِ، والتي عَجَزَت عن تأمينِ حاضنةٍ آمنةٍ لكلِّ مكوِّناتها الثقافيَّة والعرقيَّة والدينيَّة، لا بل أخفَقَت في انتشالِ نُخَبها من خلفِ ستارِ أيديولوجيا الزمن المُتخلِّفِ، والوُلُوجِ بها إلى التآخي الإنسانيِّ الرَّحبِ. وما بَرحت كلُّ جماعةٍ، تَسنُّ أحكامَها وتُطلقُ أختامَها وتُحدِّدُ أحجامَها وترفعُ أسوارها.

وفي النهاية،
استحالَ الإقليمُ الى يبابٍ حضاريٍّ: يزرعُ البَغضاءَ، وَيَحصُدُ القتلَ، ويَعصُرُ الدَّمَ.
فالتشَدُّدُ باتَ ثقافةً مُمَجَّدةً،
والتسامحُ غدا نهجًا مَكروهًا،
فيما التنويرُ أضحى فكرًا مُقَبَّحًا.