إيرانُ… وتَجَرُّعِ كأسَ السُّمِّ

المهندس ساسين القصيفي

بَرَزَت إيرانُ، في العقودِ الأخيرة، كقُوَّةٍ إقليميَّةٍ نافذةٍ، عبر ميليشياتٍ مذهبيَّةٍ أنشأتها في الكثيرِ من دولِ المنطقةِ، وكذلك عبرَ رَفعِها شعارَ المقاومة، بِوجهِ اسرائيل وأميركا.
ولقد سَلَّمَ الغربُ بِإدارَتِها ” الحكيمِة ” للإقليم، خاصَّةً بعدما رَوَّجَ إعلامُ المُمانعَةِ، ومعه الكثيرُ من الإعلامِ الدوليِّ ذات التوجُّهات اليساريَّةِ، بأنَّ إيران، معَ أحزابِها التي أسَّست، هي المُتَصدِّي الأوَّلُ للإرهابِ، فِكريًّا وفِقهيًّا وعَمَليَّاتيًّا… ولقد نَجَحَت في دِعايَتِها.
لكنَّ المَحظورَ وقَعَ، بعدَ عمليَّة طوفان الأقصى، وتفعيلِ المِحورِ لِوِحدةِ السَّاحات، ضدَّ اسرائيل، بِدءًا من حركةِ حَماس، الى حزب الله، الى الحوثيِّين، الى سوريا، الى الميليشياتِ العراقيَّةِ، وصولًا الى إيران نفسها، بحيثُ كانَ الردُّ الإسرئيليُّ، أكبرَ من التَّحدِّي، وتَدَحرَجَ لِيَنتَهيَ شاملًا ومُدمِّرََا وقاسِمََا. وهذا ما أضعفَ الحالةَ الإيرانيَّةَ في الإقليم.
ومن سوء الطَّالعِ لإيران، انَّ هذه الخسارةَ الاستراتجيَّةَ والمُدَويَّةَ في الإقليم، تزامَنَت مع عودَةِ الرئيسِ الأميركيِّ ترامب، الى البيت الأبيض. هو الذي أرجَعَ سياسَةَ «الضُّغوطِ القُصوى» على إيران، والتي تُتَرجَمُ بتخفيضِ صادراتِها النفطيَّة والتضيِّقِ على عمليَّاتِها المَصرفيَّة…
وفي المفارقاتِ السياسيَّة، وفي دلالةٍ واضحةٍ على التَّمَوضُعِ الروسيِّ الجديد في الإقليم والعالم، زارَ وفدٌ روسيٌّ، برئاسة وزير الخارجيَّة لافروف، الأسبوعَ الماضي طهران، حيث عرضَت روسيا نفسها، وسيطًا بين أميركا وإيران، في المَلف النووي.
ولكنَّ الردَّ الإيرانيَّ لم يتأخَّر، إذ صرّحَ الرئيسُ الإيرانيُّ، منذ عدة ايَّامٍ قائلًا :«كنت أعتقد أن المفاوضاتِ، هي الخيارُ الأفضلُ، لكنَّ المُرشدَ الخامنئي، أوضَحَ أنَّنا لن نتفاوضَ مع الولاياتِ المُتَّحِدَة، وسَنَمضي قُدُماً وفقاً لتوجيهاته .«وقد استُتبعَ ذلك، باستقالةِ مُساعد رئيسِ الجمهوريَّةِ للشُّؤونِ الإستراتجيَّةِ، مُحمَّد جَواد ظريف، وهوالذي يَعتَبرُه التَيَّارُ المُحافظ، رجلَ أميركا في إيران.
بالمقابل، يلحظُ المراقبُ، أنَّ خياراتِ إيران، في المناورةِ السياسيَّة على حافَّةِ الهاوية – وهي اللعبةُ التي بَرَعت في امتِهانِها طيلَةَ عُقودٍ – باتت ضيِّقةً، كما وأنَّ الظرفَ الدَّاخليَّ والإقليميَّ والدوليَّ لم يَعُد يَسمَح بذلك.
فَدَاخِليًّا، تُواجِهُ إيرانُ أزمةً إقتصاديَّةً ونَقديَّةً خانقةً. كما وإنَّ الشعاراتِ الثوريَّةَ، لم تَعُد جذَّابةً في عصرِ الذكاءِ الإصطناعيِّ. أضِف الى ذلك، أنَّ هنالك عَدَمَ يقينٍ، في استمراريَّةِ الإستقرار، في فترةِ ما بعد المُرشِدِ الحالي.
وإقليميًّا، خَسِرَت إيرانُ معظمَ أوراقِ الضغطِ، التي كانت تمتلِكُها. فنظامُ الأسَدِ سَقَطَ. وحزبُ الله ضَعُفَ وأُبعِدَ عن حدودِ إسرائيل. وحركةُ حماسٍ أصبحت خارجَ المُعادلات. الحوثيُّون في اليمن ارتُدِعُوا، وميليشياتُ الحَشدِ الشعبيِّ العراقيَّة انكفأت. فتحوَّلت إيران الى دولةٍ غير مُستَهَابَةٍ.
أمَّا دوليًّا، فبدأ المناخُ الدوليُّ، يميلُ الى التسوياتِ، حسب الرغبَةِ الأميركيَّة. وروسيا والصين تَتُوقانِ الى عَقدِ صفقاتٍ مع ترامب، تحفظُ بالحدِّ الأدنى، مصالحهما في العالم، الاقتصاديَّة والسياسيَّة والعسكريَّة. فيما دُوَلٌ مثل إيران او فنزويلا… لم يعد تُفيدها المكابَرَة.
وفي النهاية،
إيران، تجرَّعت كأسَ السُّمِّ مرَّةً، زمَن الخُميني، الذي وافَقَ على قرارِ الأمَمِ المُتَّحدةِ لوقفِ الحربِ مع العراق. وقد اعتُبِرَ ذلك انتصارًا للرئيس صدَّامَ حسين.
فهل سَيَكونُ من السَّهلِ على الخامنئي، تجرُّعِ كأسَ سُمِّ التفاوضِ، مع الرجلِ الذي أمرَ بإعدَام الجنرال قاسم سليماني، ووافق على اغتيال السيِّد حسن نصرالله؟!
الخياراتُ موجعةٌ، والانتظارُ مُؤلِمٌ…