أمَّةٌ مِنَ السَّماءِ


المهندس ساسين القصيفي

كَرَّسَ القديسُ السُّريانيُّ مارون، والذي اسمُهُ بلغةِ قومِهِ يعني « سَيِّدُ السادة »، حياةَ النُّسْكِ طريقًا للتعبُّدِ الى الله. تَحَلَّقَ حَولَهُ أتباعٌ مؤمنون، فتَكوَّنت أمَّةُ مارون، مع عقيدةٍ مُتَّسِقةٍ مع الكنيسةِ الرسوليَّةِ الجامعةِ الواحدة.
عاشَ هذا القدِّيسُ العظيمُ، زَمَنَ البطريركِ اللَّلاهوتي الكبير، يوحنَّا فَمِ الذَّهب، في القرنِ الرَّابعِ الميلاديِّ. وقد شَعَّ نورُ عَمَلِ الله العجائبيِّ فيه، وهو كان ما يزالُ حيًّا، حيث تحوَّلت صوْمَعَةُ نُسكِهِ، الى مَحَجَّةٍ لِسكَّان بلداتِ الجوارِ، يقصدونَه طالبين الشِّفاءَ من أمراضِ الجَسَدِ وعَثَراتِ الرُّوحِ. فكانت ندى بركاتِهِ، تشمَلُ الجميعَ ولا تَرُدُّهم خائبين. فانتشرت البِشارةُ السَّارَّةُ، بسيفِ كلمةِ المحبَّةِ، الى سائرِ أرجاء تلك المنطقَةِ الوثنيّة.
وأثمَرَ لاهوتُ خدمتِهِ الأرضيَّة، الآفَ الكنائسِ وملايينَ من المُخَلَّصينِ، إضافةً الى تلاميذٍ نُسَّاكٍ، حَمَلوا الانجيلَ المقّدَّسَ، ونَثَروا أريجَهُ، في أراضٍ خِصبةٍ، فأنبَتَ بطاركةً عِظامًا ورُهبانًا قدِّيسين وجماعةً مؤمنةً.
وتحوَّلَ دير مار مارون عنّايا، دُرّةً بين أقرانِهِ، حيثُ تجلَّت، عظمةُ الله، بعجائبِ الرَّاهبِ الحَبيسِ شربل. هذا القدِّيسُ، الذي ما فَتِئَ، يُعجِزُ العِلمَ ويُبهِرُ العالمَ، بِسَيْلِ أعمالِه العَجائبيَّة الشِّفائيَّة المُتدفِّقة. يُبَلسِمُ الارواحَ المُنكَسرةَ، ويُعافي الأجسادَ العليلَةَ، وشَذَا بَخورُ عَمَل الله العجائبيِّ فيه، فاحَ الى أقاصي المَعمورَة.
وما زالت أمَّةُ مار مارون الارضيَّةَ، تتوارثُ، جيلًا بعد جيلٍ، أسُسَ الإيمانِ وروحيَّةَ النُسْكِ وقوَّةَ الصَّلاةِ، عبر بطاركةٍ طوباويِّينَ ورُهبانٍ قدِّيسين وفُرسانٍ مؤمنينَ،
استشهدوا أمامَ الإضطهادِ، وما لانُوا،
حَمَلوا عاليًا روحَ الإيمانِ، وما تَزَمَّتوا،
هَدَوْا هَدْيَ جُلجُثةِ المسيح، وما كَلُّوا،
أعمالُهُم لم تَعْرِفْ العِثارَ، وألسِنتُهُم لم تُحَدِّثْ الزَّلَلَ!
وإذْ حدثَ أنَّ غِلمانًا فاجرينَ، تَحَامَلوا عليهم، فَيغفِروا، باسم المسيحِ المُحاكَمِ،
وإذْ حصلَ أنَّ مُفتَرينَ حاقدينَ، أساؤوا إليهم، فَيُسامِحوا، باسمِ المسيحِ المُهانِ،
وإذْ جَرَى أنَّ إرهابيِّينَ مُغَفَّلينَ، اعتدوا عليهم، فَيَصَفَحوا، باسم المسيحِ المَصلوبِ،
ولم يَيأسُوا من ثقافةِ المحبَّةِ، بل الرَّجاء تَثبَّتَ في قلوبِهم، باسم المسيح المُنتَصِرِ على شوكَةِ الموت، وَبَقَوْا أمينينَ على رسالةِ السَّلامِ، التي تُلَخِّصُ جُلَّ تعاليمِ السيِّد المسيح، له كلُّ المَجدِ!
وهذه الأمَّةُ، التي تَتَلْمَذت على سِيَرِ أحبارِها القدِّيسين، في العيشِ الوَرِعِ، تَحوَّلت بِمؤمنيها الأتقياءِ، مع أقرانِهم من مُستقيمي الرأي، الى أمَّةٍ سماويَّةٍ.
وما زال المؤمنون، المُلهَمونَ بتعاليمِ قدِّيسي الكنيسةِ الجامعةِ، يَعمَلُون ويُعلِّمون وصايا السيِّد المسيح، له كلُّ المجدِ، كما دَوَّنها، البشيرُ متّى: وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ…
تحيَّةُ وُدٍّ وإعزازٍ، الى روحِ أبينا البطريرك الرَّاحِل، مار نصرالله بطرس صفير!
وتحيَّةَ إجلالٍ وتقديرٍ، الى أبينا البطريرك مار بشارة بطرس الراعي، على حَملِهِ عَصا الرِّعايةِ، على دربِ أسلافِهِ العُظَماءِ!
كلُّ عيد مار مارون والجميعُ بخير!
مقالة نعيد نشرها
9 شباط 2025