الملف الإستراتيجي
يخرج كثير من السياح من لبنان بانطباعات متناقضة: بلد يأسرهم بجماله وكرم ناسه، لكنه في الوقت نفسه يربكهم بفوضاه وبناه التحتية المتهالكة. هذا التناقض يتكرر في شهادات حيّة ينشرها الزوار على منصات مثل Reddit، حيث يظهر بوضوح أن الجمال وطيبة الناس لا يكفيان وحدهما ليكون السياحة قطاعًا اقتصاديًا راسخًا.
في خيط (thread) كتبه أحد السياح بعد إقامته في جونية، بدأ بانطباع إيجابي: «استمتعت كثيرًا»، لكنه سرعان ما انتقل إلى سرد السلبيات: «لا يمكنك أن تمشي هنا. لا أرصفة، وإذا حاولت فأنت جنب زحمة خانقة وهواء ملوّث. البحر كله مُخصخص، ولا تستطيع أن تقترب منه إلا إذا دفعت. وحتى سيارات الأجرة، السعر يتبدّل من ثمانية إلى عشرين دولارًا لنفس المشوار». هذه الكلمات أثارت تفاعلًا واسعًا من اللبنانيين أنفسهم؛ بعضهم أقرّ بأن هذا هو واقعهم اليومي، وآخرون ردّوا بسخرية مرة: «أهلا بك في لبنان، حيث البحر للسياسيين والأرصفة للسيارات المركونة».
لكن النقاش لم يقف هنا. بعض المعلقين حاولوا الدفاع، مشيرين إلى أن هناك مساحات عامة مثل كورنيش بيروت ما زالت مفتوحة، وإن كانت قليلة ومهملة. آخرون قدّموا نصائح عملية للسائح: «حمّل Bolt أو Uber Cash، ولا تعتمد على التاكسي التقليدي». هكذا يظهر جليًا أن التجربة السياحية في لبنان غالبًا ما تترك السائح في مواجهة حلول فردية بدلًا من منظومة سياحية متكاملة.
خيوط مشابهة على Reddit تكشف الجوانب ذاتها. أحد السياح كتب: «أجمل ما في لبنان هو الناس. الجميع يساعدك بابتسامة، والإنكليزية والفرنسية منتشرتان. لكن إذا لم تحمل كاش بالدولار فأنت في ورطة، فالبطاقات لا تنفع». آخر أضاف: «اشتريت خط Alfa ب٣ دولارات، لكن الإنترنت يتقطع. ومع ذلك لم أشعر بعدم الأمان، فالناس طيبون». وفي مقابل هذه الانطباعات الدافئة، كتبت سائحة أخرى عن تجربتها الأولى: «شعرت وكأن الجميع يحدّق بي، لم أشعر بالترحيب في اليوم الأول». فجاءها رد لبناني: «الناس ليسوا ضدك، هم فقط متعبون وقلقون. حتى نحن نشعر بالغربة أحيانًا».
هذه النقاشات تكشف بوضوح الفجوة بين عناصر الجذب وعناصر النفور. فالجمال الطبيعي والضيافة عنصران لا يمكن إنكارهما: مناظر جبلية خلابة، طعام متنوّع، حياة ليلية نابضة، وأناس مستعدون لمساعدة الغريب. لكن هذه الإيجابيات تصطدم مباشرة بالثغرات: غياب الأرصفة والنقل العام، الازدحام والتلوث، خصخصة الشواطئ، فوضى التسعير، وضعف الخدمات الأساسية.
من زاوية اقتصادية، هذا يعني أن لبنان يملك رأس مال سياحي خام لكنه عاجز عن تحويله إلى صناعة مستدامة. فالسائح الذي يكتب: «أحببت لبنان، لكن…» يختصر معضلة كاملة: هناك ما يجذب، لكنه لا يُترجم إلى عائد طويل الأمد. السياحة الناجحة ليست فقط صورًا للجبال وموائد عامرة، بل هي أيضًا تجربة متكاملة تبدأ من المطار وتنتهي بالشاطئ العام، مرورًا بالبنية التحتية والنقل والأسعار.
إن خيوط Reddit بما تحمله من صراحة وتناقض تُعد شهادة حيّة على ما يقوله اللبنانيون منذ سنوات. فالمشاكل التي يراها الزائر في أسبوع هي نفسها التي يعيشها المواطن يوميًا. وإذا أراد لبنان أن يجعل من السياحة رافعة اقتصادية حقيقية، فذلك يتطلب إصلاحات ملموسة: تحرير الشواطئ العامة من الخصخصة، تطوير النقل العام والسياحي، تنظيم الأسعار ووضع معايير شفافة، وتحسين البنية التحتية للمدن والبلدات. عندها فقط يمكن للجمال وطيبة الناس أن يتحولا من ميزة عاطفية عابرة إلى قوة اقتصادية قادرة على مواجهة الأزمة.





