المهندس ساسين القصيفي

ابن خلدون ،هو أحدُ أهمِّ علماءِ الإجتماع في زمَنِه، وهو العَالِمُ بِفَلسفَةِ التّاريخِ في كلِّ الأزمانِ. وُلِدَ في تونس، وعاشَ معظمَ حياتِه، مُتَرحِّلًا بين قطاعات شمالِ إفريقيا، الى أنِ استقرَّت به الأيَّامُ، في آخر فترةٍ من حياتِهِ في مِصرَ، والتي كانت تحتَ حُكمِ دولَةِ المَمَاليك، حيث، برَعَ كَمُفكِّرٍ، ولمَعَ كباحثٍ، وتَبَرَّزَ كفقيهٍ. ولقد تُوُفِّيَ ودُفنَ في مصرَ، مع بِدايةِ القرنِ الخامس عشر.
وَكَكَثيرٍ من أصحابِ العِلمِ في ذلك الزمن، أرادَ ابنُ خلدون ، أن يُوثِّقَ أحداثَ وأقوالَ عصرِه، في كتابٍ مَرجَعٍ. فكانَ كتَابُهُ الشَّهير: العِبَرْ. وقد ضَمَّنَهُ الكثيرَ من المَوضوعاتِ، من الدينيَّةِ الى التَّاريخيَّةِ الى العِلميَّة والسياسيَّة… ولكي لا تضيعَ فِكرَتَهُ الأساسيَّة، استخلَصَ ” عِبَرَ العِبَرِ” من كتابِهِ هذا، ودَوَّنَها في كتابٍ مُنفَصِلٍ، أسْمَاهُ: المُقدِّمةُ، وبات يُعرَفُ بِمُقدِّمَةِ ابن خلدون، والذي طَغَى على الكتابِ الأساس. إذ إنَّ العلماءَ والمؤرِّخينَ اهتمُّوا بهذا الكتابِ، وأهمَلُوا الكتابَ الأمَّ.
تَطرَّق ابن خلدون، في مُقدَّمتِهِ هذه، الى التَّحَوُّلاتِ المَوضُوعيَّةِ والتناقضاتِ الذاتيَّةِ، ضِمن كلِّ مجتمعٍ او بَوْتَقةٍ إنسانيَّةٍ. كما وعالَجَ تاريخَ صُعودِ وانهيارِ المَمَالِكِ، من خلالِ عدَّةِ ابوابٍ. فَركَّزَ على طبائعِ الناس، وهذا العِلْمُ تَطوَّرَ فيما بعد، فأصبح عِلمَ الانسان. ثمَّ حلَّلَ ما يحدثُ داخلَ المَمَالك، وعلاقةَ الاقتصادِ بطبيعةِ الحُكمِ، وتطوَّرَ هذا العِلمُ فيما بعد، فأصبحَ الإقتصادَ السياسيَّ. كما وأبرزَ أهميَّةَ سِيرةِ المُلوكِ، في كتابةِ تاريخِ المَمَالك.
وتبقى خلاصةُ قناعاتِه، في أنَّ جوهَرَ التاريخِ، هُوَ فِكرةُ المُلكِ او السُّلطةِ، والحصولُ على السُّلطةِ هو مفتاحُ التاريخ.
وحسبَ وصفِهِ، فالإستحواذُ على السُّلطةِ، يَتَأتّى غالبًا عبرَ نضالٍ غيْرِ سِلمِيٍّ. وهوَ ينظرُ الى دَوْراتِ التَّاريخِ، كَتنازُعٍ تَنَاقُضيٍّ، بين حياةِ المَدينَةِ والتَّحَضُّرِ من جهةٍ، وبين حياةِ البَدَاوةِ من جهةٍ أخرى. ومُصطلحُ البَدَاوةِ، عَنَى في زمنِهِ، كلَّ حياةٍ غير مَدَنيَّةٍ، أو لها اتِّصالٌ مباشرٌ مع الطبيعةِ، مثلَ الزِّارعِة او رَعْي المواشي…
هذا هو برأيِهِ جوهرُ النِّزالِ الرئيس: المَدنيَّةُ مُقابلَ البداوة!
وفي توصيفِه لِحياةِ البَدَاوةِ، يقول إنَّها حياةٌ شاقَّةٌ، تُوَلِّدُ العزيمَةَ وتفرضُ العصبيَّةَ بين أفرادِها. وعلى مدى كلِّ أربَعَةِ او خمسةِ أجيالٍ، تُراكمُ هذه المجموعاتُ البَدَويَّةُ الشَّجاعةَ والبأسَ، فَتَصرِفَ فائضَ القوَّةِ هذا، في مُهاجَمةِ المدينةِ، فَتَغلُبها عسكريًّا وسياسيًّا. إلَّا أنَّ إغراءاتِ المَدينةِ، في اسلوبِ الحياةِ، تبقى عصيَّةً على الهزيمة. المدينةُ تستوعبُ البداوةَ اجتماعيًّا، وتُمَدِّنُها، حسب وصفِهِ!
وفي الحَتمِيَّةِ التَّاريخيَّةِ، تَنَبَّأَ ابن خلدون، بِصُعودِ وهُبوطِ الأمَمِ، في دوراتِ صِّراعٍ مَوثوقةٍ. فقال في حوالَي منتصفِ القرن الرابِعِ عشر، أنَّ مُلْكَ العَرَبِ آفلٌ! وقد حصلَ فعلًا، حيث أنَّ مجموعاتٍ غير عَربيَّةٍ، تَمَلَّكَت عليهم، فَفَقَدَ العربُ وزنَهمُ الحضاريُّ، منذُ ذلكَ الزَّمن. كما وكان يَهْجُسُ حوْلَ الخطَرِ الذي تُشكِّلُهُ، قبائل الأناضول التُركمانيَّة على مِصرَ. عِلمًا أنَّ مِصرَ وقتَها، كانت في عُهدةِ المَمَاليكِ، الذين شَوكَتُهُم كانت قويَّةً آنذاك. وقد تحقَّقَت نُبُوءَتَهُ بعد أكثر من قرنٍيْنِ، عندما غزا السُّلطانُ العثمانيُّ سليم الأوَّلِ، مِصرَ، وأَطاحَ بالمَمَاليكِ. وقالَ أيضًا، إنَّ مركزَ الحضارةِ، يَنتَقِلُ من عندنا الى الشمالِ، الى بلادِ الرُّومِ، حيث هناك صُرُوحٌ عِلميَّةٌ، تنشُرُ العِلمَ والفلسفةَ. وأضافَ، للأساتذةِ في تلك البلادِ، مُريدينَ كُثُرٍ! وبالفعلِ، كانت هناك جامعاتٌ رائداتٌ، قد تأسَّست، لِقُرونٍ خَلَتْ، وزاعَ صيتُها، مثل أكسفورد وبولونيا وكامبريدج والسُّوربون… والتي ما بَرِحَت تنشرُ المَعرفَةَ وتُدرِّسُ المَنطِقَ. وقد أثمَرَ هذا التَّراكُمُ العِلميُّ، تَغيِّيرًا نوعيًّا داخلَ النُّخَبِ الثقافيَّة، تَتَرجَمَ بِثَوراتٍ نَهضَويَّةٍ مُتَدَحرِجَةً، الى يومنا هذا، أفادتِ البشريَّةَ جَمعَاءَ، على كلِّ الأصعدة!
ختامًا،
ربَّما لم تَعُدْ كثيرٌ من أفكارِ ابنِ خلدون مُناسِبةً لزمانِنا، لكنَّ منطقَهُ وترتيبَ أفكارِهِ يظلَّانِ مرجعًا صالحًا لكلِّ دارسٍ.
وما فَتِئَ مِفتاحُ التَّاريخِ– الحُكْمُ – في هذه المنطقةِ البائسة من العالمِ،المُحرِّكَ الأساسَ، لِمُمارسَةِ هِوايَةِ العُنفِ الماديِّ والمَعنَويِّ، من كلِّ ألوانِ الطيْفِ!
تحيَّةً الى روحِ ابن خلدون!