المهندس ساسين القصيفي
وما إن تَخرُجُ من حَواضِرِ المَكانِ، وتُولِجُ الى الحَيِّزِ الخارجِ الزَّمانِ، حتى تُصادفَكَ أرواحٌ مُبتهلَةٌ وأخرى مُضْطَربةٌ.
وفي هُنيْهةِ الانتظارِ،
يَنْتَابُكَ إحساسُ الرَّهبَةِ، وأنت داخِلُ إيوَانِ مَلِكِ المُلُوكِ،
ويَغمُرُكَ شعورُ الطَّمأنينَةِ، لأنَّك إزاءَ المُخلِّصِ الشَّامِلِ المًحبَّةِ،
وتَخشَعُ روحُكَ الجَّامِحَةَ، لانَّك أمامَ الدَّيَّانِ، الكُلِّي العدلِ.
وها هي لحظاتٌ، حينَ،
يُبسِطُ يَدَيهِ إليكَ، فتَتَحَسَّسُ أثارَ المَساميرِ في مِعصَمَيْهِ،
ينظرُ إليك، فَتَلحَفُكَ حرارةُ النُّورِ المُتَوَّهِّجِ من هالتِهِ،
يجلِسُ عن يمين العَظَمَةِ، فَيُجيدُ على مُختاريه، حياةً أبديَّةً.
فَسألُني، وانا أعاينُ الضِّفةَ الأخرى، حيث لاحظتُ قُنوطًا وأُحْسَستُ أَسَفًا،
هل عَمِلْتَ خيْرًا؟ وفيما كنتُ أخبرُهُ عن فُتاتٍ وَزَّعتُهُ، وعن نَزرٍ أعطيتُهُ، قاطعني قائلا، كفى.
وبعدَها، تابعَ سائلًا، هل زُرتَ مريضًا؟ هل واسَيْتَ مَحزونًا؟ هل كَسَوْتَ عُريانًا؟ فحاولتُ أن أبَرِّرَ تَهاوني، لكنَّهُ أظهَرَ عدَمَ رغبْةٍ في الاستماع.
من ناحيتي، أردتُ أن أُبَيَّنَ له، كيف احتَرَمتُ، مَوَاقيتَ الصَّلاةِ، وعَدَدَ الرَّكْعَاتِ، وساعاتِ الصِّيامِ… فأجابني، ألَمْ تقرَأ في الكتابِ، أنَّ العَشَّارينَ والمُرائينَ يفعلون هكذا أيضًا ؟!
والحالُ هذه، أنِ انْتابَني شُّعورٌ بِعَدَمِ اليقينِ، أو كأنَّ الدَّيْنونةَ قد دنَت.
فابتهلتُ اليه، طالبًا مغفِرَةً وسَمَاحًا، وَأنْ أعودَ الى تلك الناحيةِ حيثُ وُلدتُّ، لكَيْ أُخَبِّرَ بكلِّ الحقِّ. فردَّ قائلًا: في عهدِ النِّعمَةِ، إنّي أكلِّمُ الناسَ، عبرَ أعمالِ رِجالِ الله البَّارِّينَ، الذين يُصَلُّون، باتِّضاعٍ العذراءِ. وَيَتْلُونَ الوَرديَّةَ، بِمَحبَّةِ الإيمانِ. ويُوظِّفونَ وَزَنَاتِهم في خدمةِ الإنسانِ، بِفَرَحِ العَطَاءِ. كما وإنِّي جعلتُ من القِّدِّيسينَ، ايآتٍ حَيَّةً، تشهدُ لمجدِ السَّماءِ. وها هو قدِّيس عنَّايا، ما بَرِحَ يَفيضُ نِعَمًا ويُوزِّعُ بركاتٍ على العالَمِين. ومع هذا، فإنَّ فئةً، جَحَدَت بأيآتي، وأُخرى، شاحَت بِوَجهِها عن تعاليمي، إضافةً الى أولئك الذين أنكروا عَملي الفدائيِّ – الخَلاصيِّ على الصَّليب. واسترسَلَ قائلا: الذي لم تُقنعْهُ شَهاداتُ الله الحيَّةِ، لن تَردَعَهُ كلماتُ انسانٍ خاطئٍ!
ثمَّ استَفسَرَ، وهو واقفٌ مقابلَ ذاك البابِ الضَّيِّقِ، لذلك البَهْوِ الواسِع: كَمْ نفسًا قتلتَ؟ فأجَبتُهُ مُسرِعًا وبِكُلِّ جُرأةٍ وَثِقَةٍ، بأنني لم أحمِلْ سيفًا. فاستطردَ مُتسائلًا، وَهَلْ آمنتَ بالمحبَّة؟ وأنا أُلَجْلِجُ في جَوَابي، واصَلَ حديثَهُ قائلا: لم تُبَلسم قلبًا مجروحًا، ولم تُحْيِ روحًا حزينةً، ولم تغفُر لأخيك زَلَّاتِهِ، ولم تُسامِح قريبَك على هَفَواتِهِ، ولم تَوَدّ عدُوَّك على كراهيَّتِه…
فأيْقَنتُ حينها، أنَّ مُطالعَةَ الحُكمِ قد صَدَرَت. وعندما كان يَهُمُّ بالخروج، لَمَحْتُ عبر البابِ، السيَّدةَ ذاتَ الوِشاحِ الأزرقِ، والى جانبِها كَوْكَبَةٌ من القِّدِّيسين. ثمَّ أُوصِدَ البابُ، وأصبحَ العريسُ في النَّاحيَةِ المُقابلَةِ.
فأدركتُ أنَّ الأمرَ قد قُضِيَ،
فَتَطلَّعتُ ناحيةً، فشاهدتُ كثيرين، مِمَّن كنتُ أعرفُهُم، وهُم على الضَّفَّةِ اليُسرى، مَصابيحُهُم مُطفأةٌ، يَدلَفونَ في طريقهِم نحو الهاوية،
فَسِرتُ وراءَهم…
هذه بعضٌ من تأمُّلاتٍ وجدانيَّةٍ، لا تمُتُّ بِصِلةٍ الى النواحي الإيمانيَّة.