المهندس ساسين القصيفي
تعيشُ مُعظَمَ مُجتمعاتِ الأمَّةِ العربيَّةِ، أسيرةً ضِمنَ عِدَّة سجونٍ مُتداخلةٍ، وضَعَت نفسَها طَوْعًا خلفَ قُضبانِها، حيثُ ما زالت الاكثريَّةُ، مُطبِقةً على مساراتِ الخروجِ، مانعةً أيَّ تَّسرُّبٍ الى هذا الفضاءِ المُقفَلِ، ومُخَوِّنةً أيَّ متَمرِّدٍ على هذه الثقافَةِ الأبَوِيَّةِ.
إنَّ العقلَ الجَمْعِيَّ العَرَبيَّ، مسجونٌ في فكرةِ البُكاءِ على الأطلالِ، والحنينِ الى ماضٍ، خُيِّلَ له انَّه كانَ مجيدًا، مع كلِّ ما يَستَتبِعُ ذلك من نزعَةٍ شوفينيَّةٍ: نحن خيْرُ الأقوامِ، شجاعةً وبَسالةً وأخلاقًا وإيمانًا وعِرقًا ونظافةً… وكنَّا أسيادَ العالمِ، رِجْلٌ في الصينِ وأُخرى في الأندلُسِ، فيما بَقيَّةُ الأمَمِ كانت عندنا، عبيدَ العصا…
كما وإنَّ الوَعْيَ العَّامَّ العَرَبيَّ، مَغلولٌ في دَخيلةِ هِجاءِ القبيلةِ الأخرى او القَوم الآخر: هذا عَلمانيٌّ وذاك نَجسٌ وذلك كافرٌ… إضافةً الى أنَّ جُلَّ المناهج التربويّة والكثيرَ من الإعلامِ، يَذُمُّ هذا الآخَرَ: فهذا يَحسدُنا( على ماذا؟) وذاكَ يتآمرُ علينا ( لماذا!). وللأسفِ، فهذا الهَجْسُ المُؤامَرَاتِيُّ، طَغَى في كثيرٍ من الأحيانِ، على التَّحليلِ المَوضُوعيِّ. وبهذا المنطق قُرِئَ التَّاريخُ باتِّجاهٍ واحدٍ: أدانَ استِعمَارَ الآخرين، وفي نفسِ الوقتِ، يُمَجِّدُ غَزَواتِ بني قَوْمِه!! والحالُ هذه، هو أن ازدهرتْ هذه ” الثقافةُ “، حتّى في البيئاتِ النُّخبَويَّةِ، فاصبحَت هي نفسُها، بحاجةٍ الى إعادةِ تدويرٍ!
وكذلك فإنَ مُسَلَّماتِ الأمَّةِ وثوابتَها التُّراثيَّة، غَدَت من مُكَوّناتِ التَّفاعُلِ الحضاريِّ، حيثُ امتزَجَ التَّاريخُ مع التُّراثِ مع الُّلغَةِ مع الدِّينِ مع العاداتِ… فتَكوَّنتْ خلطةٌ سِحريَّةٌ مُقدَّسةٌ، فوقَ النَّقدِ. وتَجَمدَّتِ الُّلغَةُ في الزَّمنِ، وعَجِزتِ الأفكارُ عن التلاقُحِ، وارتَقَتِ العاداتُ الى المُستوى المُحَرَّمِ لَمْزَها، فيما السَّرديَّاتُ كُتِبَت بنظرةٍ وَرديَّةٍ أحاديَّةٍ!
وما زالت الامَّةُ العربيَّةُ الى اليوم، تُحاولُ الخروجَ من هذه الشَّرنقَةِ، التي وضَعَت نفسها بداخلِها منذ مئاتِ السِّنين. وما ثوراتُ التَّنويريِّينَ العَرَبَ او المُجَدِّدينَ منهم، إلَّا تعبيرًا عن هذه الازمَةِ الإرتكاسيَّة. وفي هذا السياق، يَجِبُ إكبار وإجلال ، الخطواتِ التَّحديثيَّةِ المُتسارعةِ، للأميرِ مُحمد بن سَلمان وللأميِر محمد بن زايد، في سياسَتَيْهِما الإنقاذيَّةِ الجَريئة، على خُطى إعادةِ التَّمَوْضُعِ، في الإتِّجاهِ الصحيحِ من التاريخِ، بالإتِّساقِ مع ثقافَةِ وحضارةِ، القرنِ الواحِدِ والعشرين.
وبالنتيجَةِ، أفضى تراكُمُ هذه السياساتُ، على مرِّ العُصور، الى عيبٍ خُلُقِيِّ، في الكثيرِ من البيئاتِ، التي ارتَضَتِ العُنفَ وسيلةً مشروعةً، للدِّفاع عن فكرتِها او لتَحقيقِ مشروعها، فيما كلُّ خارجٍ عن هذا التقليدِ اعتُبرَ مُهرطِقًا.
فإذا كان بعضُ التَّاريخِ، خياراتٍ واختياراتٍ، فإنَّ كلَّ المُستقبلِ، هو امكاناتٌ وإمكانيَّاتٌ، تَدفعُ عَجَلاتِهِ، افكارُ التَّنويرِ وفلسفةُ الحداثةِ!
كلُّ الأمَلِ والتَّقديرِ، لأصحابِ الرُّؤَى، مِنَ الذينَ يَتَدَبَّرُونَ هذه٢ الأمَّة، لِتحريرها من كَبْواتِها السَّحيقَةِ وأغلالها المُتَلاحقَة !!