Skip to content Skip to footer

دولة المواطنة



الدكتور عصام سليمان – النهار
هل من سبيل إلى دولة المواطنة في لبنان
الأزمة في لبنان هي في الأساس أزمة سياسية، فعبثاً نبحث عن حلول خارج الحل السياسي. والحل السياسي يجب ان يرتكز على المفهوم الراقي للسياسة وليس المفهوم المبتذل. والسياسة بمفهومها الراقي هي ادارة شؤون المجتمع بما يؤدي الى توفير الأمن والاستقرار وشروط العيش الكريم لأبنائه.
أبناء المجتمع في الدولة هم مواطنون تربطهم علاقة حقوقية بالدولة التي تحتضن الوطن وتحافظ على تراثه وخصوصيته وترسّخ كيانه. والمواطنة تنشأ من هذه العلاقة بين الدولة والمواطن وتقتضي ضمان حقوق المواطنين وحرياتهم الاساسية، في الدستور ومن ثم في القوانين، وتمكينهم من التمتع بها عملياً، فلا تبقى مجرد ضمانات لا قيمة فعلية لها. ومن هذه الحقوق الحقّ بالمساواة والعدالة.
هل ثمة إمكانية لتحقيق المواطنة في مجتمع تعددي كالمجتمع اللبناني؟
مما لا شك فيه ان تحقيق المواطنة، في مجتمع متجانس، أسهل بكثير من تحقيقها في مجتمع تعددي، وتحقيقها في هذا الاخير يؤدي الى زيادة اللحمة بين المواطنين وتقوية انتمائهم الوطني.
تحقيق المواطنة في مجتمع تعددي يتطلب تحرر المواطنين من العصبيات، وهذا لا يفترض حكماً تخلّيهم عن الانتماء الى الجماعة، إنما يفترض عدم نبذ الآخر والتصرف العدائي تجاهه، وقبوله كما هو وليس كما نريد أن يكون. كما أن المواطنة تتطلب من الدولة ان تتعامل مع المواطنين بمساواة وعدالة وتعتمد سياسات تشعرهم بأن الدولة تشكل ضمانة فعلية لهم ليقوى انتماؤهم اليها على حساب أيّ انتماء آخر، ما يعزز الوحدة الوطنية، ويساعد على تلاشي العصبيات والتعصب، ويؤدي الى علاقة مباشرة بين الدولة والمواطن من دون أيّ وسيط.
في مجتمع كالمجتمع اللبناني، بنيته المجتمعية تعددية تقليدية، لا تزال العصبيات تلعب فيه دوراً كبيراً في تحديد سلوك المواطن وخياراته السياسية، وتوظف هذه العصبيات على نطاق واسع في السياسة فتزداد قوة، وتعمّق الانقسامات بين الطوائف، في مجتمع كهذا تزداد الحاجة الى تعزيز المواطنة من أجل إنقاذ المجتمع من التفكك والدولة من الانهيار والمواطنين من الهلاك، ولا يتحقق ذلك إلا بمسار تطوري يرتكز على تطوير أنماط العلاقات بين الطوائف باتجاه الانفتاح على بعضها البعض ووضع حد لتوظيف العصبيات في المجال السياسي من جهة، وتطوير أداء مؤسسات الدولة والقيام بواجباتها تجاه مواطنيها على شتى انتماءاتهم من جهة أخرى. فبناء المواطنة يتطلب جهداً متواصلاً من المواطن ومن البيئة التي ينتمي اليها، كما يتطلب جهداً من الدولة، بمختلف مؤسساتها، وبخاصة الدستورية منها المنوط بها رسم السياسات العامة.
والسؤال الآخر الذي يطرح نفسه هو الآتي: هل من مصلحة الطوائف الاسهام في بناء المواطنة؟
لقد أكدت التجارب التي مررنا بها ان لا ضمانة لأبناء الطوائف سوى الدولة، وان ما تتصوره الطوائف حقوقاً لها هو مجرد وهم، فإننا نرى اليوم معظم اللبنانيين، من جميع الطوائف، محرومين من أبسط حقوقهم وفي أسوأ حال بسبب تفكك الدولة وعجزها عن القيام بواجبها تجاه مواطنيها. فالغيرة على الطائفة وعلى مصالح ابنائها تتطلب السير ببناء دولة المواطنة.
الدستور، المعدَّل بموجب اتفاق الطائف، رسم المسار المؤدي الى بناء دولة المواطنة، انطلاقا من واقع المجتمع اللبناني التعددي، وذلك في المادة /95/ منه آخذاً في الاعتبار ضرورة التخلص من الطائفية كعصبية متموضعة في السياسة، وذلك عبر سياسات في مختلف المجالات تقود الى إشعار اللبناني بانه مواطن في دولة ترعى حقوقه بغضّ النظر عن انتمائه الديني أو السياسي أو الاجتماعي، على اساس ان الطائفية لا تُلغى بقرار إنما بمسار يقود الى تلاشي الطائفية كعصبية، وتحويل الاحزاب الى احزاب عابرة للطوائف تجمع المنتسبين لكل منها رؤية سياسية تنبثق منها مشاريع تؤول الى تعزيز وجود الدولة وتنمية وظائفها وترسيخ كيانها وتحصين الوطن ليزداد منعة.
إن التوازنات، التي بُنيت عليها المؤسسات الدستورية، وهي توازنات مركّبة، تجمع بين التوازنات الطوائفية والتوازنات بين المؤسسات الدستورية، غايتها منع أيّ فريق طائفي من الهيمنة على السلطة، لأن ذلك يطيح العيش المشترك الذي جعله الدستور ركيزة أساسية لشرعية السلطة، ويعطل أداء المؤسسات الدستورية ويحول دون التطور والسير في المسار الذي رسمه الدستور من أجل بناء دولة المواطنة.
إن مشاركة الطوائف في السلطة، وفق الدستور، هي مشاركة في بناء الدولة القادرة على القيام بواجباتها تجاه مواطنيها، وهي مشاركة طوائفية ووطنية في آن، وليست طوائفية بحتة، وهذا ما يؤكد بُعدها الوطني.
إن الديموقراطية، التي بُني عليها نظامنا السياسي، هي ديموقراطية نابعة من الميثاق الوطني ومن مبادىء وقيم الديموقراطية المتعارف عليها عالمياً، فهي ديموقراطية ميثاقية وليست توافقية، لأن التوافق يطغى غالباً على الديموقراطية فيفرغها من مضمونها، بينما الميثاقية ترسّخ المضمون الديموقراطي كونها قائمة على الاعتراف بالآخر والحقّ بالاختلاف، وعلى ضرورة ضمان الحقوق والحريات الأساسية لجميع اللبنانيين.
إن المفاهيم التي بُني عليها دستورنا لا بد من توضيحها بما يخدم بناء دولة المواطنة، والالتزام بها في ممارسة السلطة وأداء المؤسسات الدستورية، وذلك من أجل تقوية النسيج الوطني لقيامة لبنان.

  • رئيس المجلس الدستوري سابقاً
إشترك معنا في النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية في صفحتنا على
الويب للحصول على آخر الأخبار.