Skip to content Skip to footer

بين ديغول وعبد الناصر،

عاشَ هذان الرَّئيسانِ في نفسِ الحَقبَةِ السياسيَّة العالميَّة، وربما كانا جزءًا من صُنَّاعها. كلاهما كان عسكريًّا، ولكنَّهما جاءا الى السُّلطَةِ، وصنَعَا شرعيَّةً لِحُكمِهِما، كلٌّ بِطريقةٍ مُختلفةٍ.
الجنرال شارل ديغول، انتفضَ ضدَّ استسلام الحكومةِ الشرعيَّةِ الفرنسيَّةِ للاحتلال الألمانيّ، وأعلَنَ قيامَ جمهوريَّة فرنسا الحُرَّةِ من لندن. وبعد الحربِ والنصرِ، انكفأ عن الشأنِ العام، الى أن عاشت الجمهوريَّةُ الرَّابعَةُ الفوضى السياسيَّة. فكان اللجوءُ الى الجنرال ديغول، هو الحلُّ الوطنيُّ للمُعضِلَةِ السياسيَّة. فانتُخبَ آخرَ رئيسٍ للجمهوريَّةِ الرَّابعةِ، وكان بعدها أوَّل رئيسٍ للجمهوريَّةِ الخامسة التي أنشأ. يعتبرُهُ الفرنسيُّون صانِعَ العَظَمَة الفرنسيَّة، في القسم الثاني من القرن العشرين. كان مَسكونا بالقوميَّةِ الأوروبيَّة، وكان هاجسُهُ إعادة فرنسا الى نادي العظماء، فكانت القنبلةَ النوويَّةَ الفرنسيَّةَ. وأعادَ إحياءَ ما باتَ يُعرف بالزَّمنِ الجميلِ الفرنسيِّ، في الثقافَةِ والعُلومِ والسينما والأغنية، إضافةً الى الصناعة والزراعة. فيما شكَّلَ انسحابُ فرنسا من الإمْرَةِ العسكريَّة الأطلسيَّة، إحدى تجليَّات شخصيَّة هذا الزعيم في الفرادةِ الفرنسيَّةِ ضمن الحلفِ الأطلسيِّ. كان اولَّ رئيسٍ غربيٍّ، يُقدِّمُ استقالتَهُ من السُّلطة، وهو يتمتَّعُ بأغلبيَّةٍ شعبيَّةٍ. وما زال إرثُه السياسيُّ وهذه الثقافةُ الديمقراطيَّةُ التي أرسى، أساسًا للحصيفين من السياسيّين في فرنسا والعالم الحرّ.
عبد الناصر، جاءَ الى الحُكمِ بانقلابٍ عسكريٍّ، بعد وَهْنِ النِّظامِ المَلَكيِّ الحاكمِ، إثرَ حربِ 1948 في فلسطين. شرَّعَ ثقافةَ الانقلاباتِ، وشجَّعَ الثوراتِ، في كثيرٍ من دولٍ الإقليم. فكرُهُ السياسيُّ، قامَ على مدرسةٍ شِعريَّةٍ في الكرامَةِ مع تسويق شعار: «ارفع رأسك يا أخي»، إضافةً الى الشَّتيمَةِ السياسيَّةِ للغرب. أمَّا عقيدتُهُ الاقتصاديَّة، فانحسرت في سياسَةِ التَّأميمِ والاشتراكيَّة. فحَصَدَت مصرَ مع معظمِ دولِ الإقليمِ، النَّكَباتِ الاقتصاديَّةَ والسياسيَّةَ والاجتماعيَّةَ. كان يُتقنُ فنَّ الخطابَةِ، فَسَحرَ الجماهيرَ العربيَّةَ بِبَعثِ المَشاعِرِ القوميَّةِ المُبَعثَرَةِ، في مشروعِ الوِحدةِ العَرَبيَّة. لكنَّه أخفقَ في وضعِ أسُسٍ عِلميَّةٍ لهذا المشروع القومي، فَفَشلَت كلُّ تجاربِهِ الوِحدَويَّة. أرادَ أن يصنعَ نصرًا قوميًّا، فكانت النكسةُ للعربِ في حربَ 1967. أسَّسَ عبد الناصر، لمَشروعيَّة الفِكرِ الثوريِّ – القومي في الإقليم، فكانت الثوراتُ، في العراق واليمن وسوريا وليبيا… وإرثه هذا ما زال يحفرُ عميقًا في الوجدانِ الجَمعيِّ العَربيِّ.
شخصيَّتانِ، كان لهما التأثيرَ الأبرزَ، على شعبَيْهما في النصف الثاني من القرن العشرين.
ألأوَّلُ، أنشأ جمهوريَّةً، ما زالت تُثري العالم بثقافَةِ الديمقراطيَّة، وتُنير البشريَّة بأفكارِ فلاسفتها وعُلمائِها، وباتت تُشكِّلُ ركيزةً اساسيَّةً في الإتِّحادِ الاوروبيِّ.
فيما الثاني، أسَّسَ لِثقافةٍ سياسيَّةٍ شُموليَّةٍ، واقتصاديَّةٍ اشتراكيَّة عقيمةٍ. وما زالت تبعاتُ سياساتِهِ الفاشلةِ تَبرُزُ، في نزاعاتٍ داخليَّةٍ مفتوحةٍ وآفاقٍ إقتصاديَّةٍ مسدودةٍ مع عجزٍ سياسيٍّ عارمٍ. هذه هي السِّماتُ الرئيسةُ لمعظم دول الإقليمِ التي لَفَحَتها سياساتِه.
وللموضوعيَّة، فإنَّ المقارنةَ تتخطّى الأفرادَ، الى جَذرِ المشكلةِ، الى المَسارِ الثقافيِّ والقِيَميِّ والأخلاقيِّ لمجتمعيْنِ، نَتَجَ عنه، سَيْرورَتَيْنِ مُتعارضَتيْنِ، فَسِيَاسَتيْنِ مُتَنَاقضتيْن، فَبيئتَيْنِ مُختلفتَيْنِ…
إنَّهُ مأزقُ التَّاريخِ… وبعضٌ من الجغرافيا!


المهندس ساسين القصيفي

إشترك معنا في النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية في صفحتنا على
الويب للحصول على آخر الأخبار.