المهندس ساسين القصيفي
شكَّلتِ حربُ أوكتوبر على اسرائيل سنة 1973، مَيْدانًا رَحْبًا، لِجَولاتِ وزيرِ خارجيَّةِ أميركا الأغرّ، ذُو الأصولِ اليَّهوديَّةِ، هنري كيسنجر- والذي كان قد عُيِّنَ حديثًا في منصِبِهِ – لِتبْيَانِ مَهاراتِهِ الدِّيبلوماسيَّة، على وقْعِ قَرْقَعاتِ المَدافِع وأزيزِ الطَّائراتِ، بين سيناءِ والجولانِ، حيثُ نَجَحَ عَبْرَ جولاتِهِ المَكُّوكيَّةِ، واجتماعاتِه المُطَوَّلةِ، مَعَ زُعماءِ المنطقَةِ، في فَرضِ وقفٍ دائمٍ لإطلاقِ النَّارِ، بِقَرارٍ من الأممِ المُتَّحّدَة، ما زال مفعولُهُ ساريًا الى اليوم!
وبعد خمسين سنة، بالتَّمامِ والكَمَالِ، اندلعَت شرارةُ حربٍ أخرى، تقريبًا على نفسِ الجغرافيا، بعدَ هجومِ حركَةِ حماسِ على اسرائيل. فَتدخَّلت أميركا في الحالِ، مُوفِدَةً، إضافةً الى حامِلَتَيْ طائراتِها، وزيرَ خارجيَّتِها، أنتوني بلينْكِن، ذو الأصولِ اليهوديَّة ايضًا، والذي قام بِعِدَّة زياراتٍ مُتتاليةٍ للمنطقة، باحثًا عن حلولٍ. لكنَّه فَشِلَ، حيث نجَحَ سَلَفُهُ، في فرضِ رؤيَته للسَّلامِ في المِنطقة، وإلزامِ المُتحاربينَ بِوَقفٍ دائمٍ لإطلاق النار!
في الحقيقةِ، وبعد نِصفِ قرنٍ، الكثيرُ تغيَّرَ في المنطقةِ والعالم،
فَبِنيامين نتنياهو اليومَ، ليسَ غولدا مائير آنذاك،
واسرائيلُ اليومَ، باستقلالِها النِسبيِّ عن أميركا وبِتَفوِّقِها التكنولوجيِّ وتطوُّرها الاقتصادِيِّ وبِنموِّ علاقاتِها الإقليميَّةِ والدَّوليَّةِ، ليسَت تلكَ الاسرائيلُ، التي كانت قبلَ خمسينِ عامًا، مُحتاجةً للغَربِ، في كلِّ شيءٍ تقريبًا.
من جهةٍ اخرى، فإنَّ العَرَبَ اليومَ، ليسوا بقوَّةِ العربِ آنذاك،
فالرِّجالاتُ الكبارُ من العربِ، غادروا ولَمْ – ورُبَّما لن – يعودوا،
والاقتصادُ مُتعثِّرٌ، والسِّياسةُ مأزومةٌ، والمجتمَعُ مُفَكَّكٌ، وكلامُ المُنجِّمينَ أسمى من صوتِ المُثقَّفينَ، وحديثُ عُلماءِ الدِّينِ أبْلَغ من ذوي العِلمِ، فَغَدَى الطُّمُوحُ محدودًا والأفقُ مسدودًا!!
فيما روسيا اليومَ إضافةً الى الصِّينِ، ومَعَ كلِّ ما يُمثِّلانِ من قوَّةٍ، ليْسَتا ذاكَ الاتِّحادُ السوفياتيُّ، الذي كانت هيبتُهُ العَسكريَّةُ تَسبُقُ ديبلوماسيَّتَهُ.
لنعودَ الى حربِ أوكتوبر 1973، مَعَ كيسنجر، والذي بعدَ أنْ رَفضَت اسرائيل، طلباتِهِ المُتَعَاقِبَةِ، بِفَكِّ الحصارِ عن الجيش الثالثِ المِصري، المُحاصَرِ في سيناءِ، وذلك تنفيذًا لإلتِزامَاتِهِ تُجاهَ السَّاداتِ – ورُبَّما كانت هذه الخطوةُ، الأساسَ للثِّقَةِ المُتَبادَلَة بينهما، والتي أفضت لاحقًا، الى فكِّ ارتباطِ مصرَ مع السُّوفيَاتِ، والشُّروع في عمليَّةِ السَّلامِ في كامْب دايْفِيد – هَدَّدَ كيسنجر اسرائيلَ قائلا: إنَّ الجيشَ الأميركيَّ، سيُسقِطُ بالمِظلَّاتِ غدًا، المُؤَنَ والماءَ، للجيشِ المِصري في سيناء، ما لم ترفعوا الحصارَ. فكان أنْ انْصاعَتِ إسرائيلُ، في الحالِ، للرَّغبةِ الكيسِنجِريَّة، وسمَحَت بدُخولِ قوافلِ المُؤن برًّا !!!
وفي المفارقاتِ، تبيَّن لاحقًا، انَّ هذا التهديدَ كان وهميًّا، ومن اختراعِ بَناتِ أفكارِ كيسنجر!!
أمَّا غزَّةُ اليومَ فهي محاصرةٌ، والعَرَبُ والعَجَمُ، عَاجزونَ عن إدخالِ المُؤَن برًّا، الى العُزَّلِ من الغزَّاويِّين المُحاصَرينَ. فلجأ العالمُ الى إسقاطها بالمِظلَّاتِ، اذ ليسَ هناكَ من مُستَجارٍ!!
يفتقدُ العالمُ اليومَ الى شَخصيَّاتٍ كارزميَّةً مسؤولةً، قادرةً على استنباطِ حُلولٍ، لحروبٍ تَطُفو على، تَرْسانَةٍ من الكَرَاهيَّةِ وجَاذِبِيَّةٍ من الثَّأرِ.
ويبقى، أنَّ كلَّ الحروبِ مع ويْلاتِها، هي هزيمةٌ حَضَاريَّةٌ وأخلاقيَّةٌ، للإنسانيَّةِ جَمعاء!