المهندس ساسين القصيفي- إنَّه وزيرُ خارجيَّةِ الامبرطوريَّةِ النَّمساوِيَّة، في الجزءِ الأوَّلِ من القرنِ التَّاسِعِ عَشَر.
كانت المَمَالكُ الأوروبيَّةُ الأساسيَّةُ، في مَطلَعِ القرنِ التَّاسعِ عَشَرِ، مُنهكَةً اقتصاديًّا ومضْطَرِبَةً سياسيًّا وخائفةً أمنيًّا، من ثوراتٍ داخليَّةٍ او حروبٍ خارجيَّةٍ، خاصَّةً بعد انتشارِ أفكارِ الثَّورةِ الفرنسيَّة، والحروبِ النابُليُونيَّةِ في القارَّةِ الأوروبيَّة.
وفي تلك المرحلةِ الدقيقةِ، وبعدَ هزيمَةِ نابليون على يدِ الحُلفاءِ عام 1814، استغلَّ مَتِّرنيخْ تلك اللحظةَ الحَرِجَةَ، وَدَعَا الى مؤتمرٍ عامٍّ أوروبيٍّ في فيينَّا، خريفَ سنة 1814، حضرَهُ مُمثِّلو الأمَمِ الأوروبيَّة الرَّئيسةِ، وأُرسِيَ بِنتيجتِهِ، سلامًا اوروبيًّا – دَوليًّا، دامَ حوالَيْ قرنٍ منَ الزَّمنِ.
كان مَتِّرنيخ، شخصيَّةً ألمعيَّةً، تُتقِنُ فَنَّ الخَطابةَ، وتمتَلكُ أسلوبَ الإقناعِ لِعَنَاصِرِ مشروعِهِا، وتُجيدُ إرساءَ التَّوازناتِ الرَّابحَةَ بين الافرقاءِ المُتَخاصِمين. وهكذا، خَرَجَ المُجتمعونَ بِنهايةِ المؤتمرِ، والذي دامَ بِضعَةَ أشهرٍ، وكلٌّ رابحٌ شيئًا، ومُطمَئِنٌّ لأشياءٍ. حتى فرنسا المَهزومَةَ، كانت حاضرةً عبْرَ وزيرِ خارجيَّتِها دو تاليران، والذي بدورهِ، رحَّبَ بنتائج المؤتمر.
ومن أهَمِّ أركانِ نَجاحِ هذا المؤتمر، كان التأكيدُ على شرعيَّة الأنظمَةِ المَلكيَّة القائمَة، والاتِّفاقُ على سياسةِ التَّوازنِ بين القِوى الكُبرى، وخاصة روسيا وبريطانيا وبْروسْيَا والنمسا، إضافةً الى فرنسا، التي تمَّ احتِوَاؤها وإشراكُها في هذا المؤتمرِ. كما وأعلِنَ حِيَادُ سويسرا، وهو الوضعُ الذي ما زال ساريًا الى اليوم.
وأسَّسَ هذا المؤتمرُ، لِلُّبنَةِ الأُولى لِمبدأِ التَّعاونِ الأوروبيِّ، والذي أفضى بعد قرنٍ ونصفٍ، الى سوقٍ اوروبيةٍّ مشتركةٍ، فاتِّحادٍ أوروبيٍّ واسعٍ. كما ووضَعَ هذا المؤتمرُ، حجَرَ الزَّاوبةَ، في بناءِ النِّظامَ العالميّ الحاليّ، فكانت بعد قرنٍ، عُصبةُ الأمَمِ، فالأُمَمُ المُتَّحدةِ…
ولكن للأسفِ، فها نحن اليوم، أمامَ عالمٍ تجتاحُهُ الحروبُ، وقارةٍ أوروبيَّةٍ نزيفةٍ، ومَعَ قادةٍ، معظمهم مُراهقينَ او هُواةٍ في السِّياسةِ.
فالديبلوماسيَّة الاوروبيَّة، ولا بل العالميَّة، تفتقدُ لشخصيَّاتٍ، من أصحابِ الرؤيةِ والرؤيا، تستطيعُ اجتراحَ الحلولِ المُتَوازنَة، على مَنهَجيَّةِ الكُونْتْ مَتِّرنِيخْ…
فالمؤسساتُ الأوروبيُّةُ – الغربيَّةُ، رفضَت احتواءَ روسيا المَهزومة سنة 1990، فاختلَّ التَّوازنُ الاوروبيُّ والدَّوليُّ. فكانت حروبُ البلقانِ والشَّرقِ الأوسطِ وافريقيا… وحربُ أوكرانيا.
وما زالت الديبلوماسيَّةُ الأوروبيَّةُ الحكيمةُ في استشرافها، غائبةً،
وكأنَّ تاريخَ الديبلوماسيَّةِ الأوروبيَّةِ والدوليَّةِ، قد صَدِئَ، وما بقيَ منه، صدىً، تُحرِّكُّه، مَصالحَ إقتصاديَّةً وثاراتٍ تاريخيَّةٍ وأطلالٍ امبرطوريَّة…