بقلم البروفيسور بيار الخوري
في مقهى أنيق من سلسلة ستاربكس، حضر الوسيط الأميركي آموس هوكستين في الجزء الغربي من بيروت، يحتسي قهوته وسط حي ميسور يغلب عليه الطابع المسلم. مشهد كهذا قد يبدو للوهلة الأولى عاديًا، لكنه يتقاطع مع ظلال تاريخية وسياقات سياسية تجعل منه لوحة مليئة بالسوريالية والرمزية.
في عام 1982، خلال ذروة الاحتلال الإسرائيلي لبيروت، قُتل جنود إسرائيليون في مقهى “الويمبي” في شارع الحمراء عندما تقدم شاب لبناني ليقول لهم: “خلي الحساب علينا”، قبل أن ينفذ عمليته. تلك العبارة التي كانت رمزًا للمقاومة والدم باتت اليوم تُقال لهوكستين، جندي الجيش الإسرائيلي السابق الذي تحول إلى وسيط في نزاع مرير بين إسرائيل ولبنان. “خلي الحساب علينا” قيلت له اليوم تكريمًا، بينما يشتري قهوته بكل هدوء في مقهى يمثل رمزًا لمقاطعة الكثير من العرب والمسلمين بسبب موقف الشركة من الصراع في غزة.
هوكستين، الجندي الإسرائيلي السابق الذي قاتل ضمن جيش احتل أجزاء واسعة من لبنان، يجلس اليوم كوسيط بين دولتين يحملان ذاكرة طويلة ومليئة بالجراح. كيف يتحول شخص من آلة حرب إلى وجه للحوار؟ كيف تُطوى صفحة الدم لصالح دبلوماسية تخدم أهدافًا متعددة الأبعاد؟ بل الأهم، كيف يكون وسيطًا من سبق أن انتمى للخصم؟
القهوة، ذلك المشروب الذي يوحد المزاجات ويبعث لحظات من التأمل، باتت هي الأخرى ذات وجهين في هذا المشهد. في “الويمبي”، كانت القهوة شاهدة على موقف أنهى حياة جنود محتلين. أما في ستاربكس، فهي تحمل رسالة من نوع آخر، رسالة “تطبيع” ضمني مع الحاضر والواقع الدولي، وسط تحدي مقاطعة سلسلة عالمية أصبحت رمزًا للارتباط بالصراعات الإقليمية.
ستاربكس، التي باتت عنوانًا لمقاطعة عربية بسبب موقفها في حرب غزة، تُقدَّم اليوم كمساحة تكريم لمبعوث أميركي يحمل في ذاكرته ذكريات القتال مع جيش يواصل احتلال أراضٍ عربية. المشهد يحمل ازدواجية صارخة: كيف يُكرَّم وسيط في مقهى يُفترض أن يرمز للمقاطعة؟ أهو انصياع للقوى الكبرى أم تأقلم مع واقع سياسي مُعقَّد؟
هذا المشهد لا يخلو من رمزية مؤلمة. فلبنان، الذي طالما كان أرضًا للصراع والمقاومة، بات مسرحًا لتحديات جديدة يفرضها الزمن. ذاكرة الحرب والاحتلال تتعايش مع واقع السياسة والتسويات، والقهوة التي كانت رمزًا للمقاومة أصبحت تعبيرًا عن دبلوماسية “الحساب الموصول” مع الماضي والحاضر.
يبدو أن المشهد السوريالي لا ينحصر في شخصية هوكستين أو كوب القهوة، بل في قدرة التاريخ على إعادة صياغة ذاته بأوجه جديدة، تختلط فيها المرارة بالنكهة، والمقاومة بالتطبيع، والذاكرة بالنسيان.