عندما نقل الملاك جبرائيل كلام الله وإرادته وتصميمه لكلّ من زكريا الكاهن زوج اليصابات، ومريم عذراء الناصرة المخطوبة ليوسف، أصغيا وتأمّلا طويلًا.
ولـمّا زارت مريم نسيبتها إليصابات الحامل بيوحنّا في شهرها السادس، وأسرعت من الناصرة إلى عين كارم عبر الجبال والوديان والسهول لمساعدة أليصابات حتى مولد يوحنّا، كان النطق الموحى من الكلام الإلهيّ.
فأليصابات، المتأمّلة طيلة ستّة أشهر، نطقت، وقد امتلأت من الروح القدس، وحيّت مريم “بالمباركة بين الناس” و “بأمّ ربّها” وطوّبتها على إيمانها بالكلام الإلهي. ونطقت مريم بنشيد “التعظيم لله وتمجيده على عظائمه”. ويوم مولد يوحنّا، نطق زكريّا وقد حُلّت عقدة لسانه بنشيد “تبارك الربّ” (لو 1: 67-79).
6. سماع وتأمّل ونطق: السماع لله الذي يكلمنا، والتأمّل في كلامه. ولأنّ كلام الله خارج من قلبه، وجب على الإنسان أن يسمعه بالقلب. التأمّل هو أن تسمع الله بقلبك لأنّه يخاطب قلبك. قمّة الصلاة التأمّل، وبعد ذلك النطق بالكلمات وبالأعمال والمواقف والمبادرات. تكون هكذا مبدعًا، فتكلّم الله على طريقتك. وتكون خلّاقًا فتقرّر بحريّتك ما تشاء. فالله أرادك على صورته خلّاقًا ومبدعًا. نقرأ في سفر يشوع بن سيراخ: “وأعطى الربّ الناس قلبًا للتفكير، وملأهم من الفطنة وأطلعهم على الخير والشرّ، وجعل عينه على قلوبهم، ليظهر لهم عظمة أعماله، فيحمدون اسمه القدّوس ويخبروا بعظائم أعماله” (سيراخ 17: 6-10).
يبيّن يعقوب الرسول في رسائله قيمة سماع الكلام والعمل به، ولا يفصل بينهما (يعقوب 1: 21-25). ويبيّن أهميّة النطق إذا صدر عن قلب متأمّل، وشرّه إذا صدر عن سطحيّة وردّات فعل (يعقوب 3: 2-12).
ويضيف: “اللسان شرّ … به نبارك الله الآب، وبه نلعن الناس اللذين على مثال الله خُلقوا. فمنه، من الفم، تصدر البركات واللعنات … أيستطيع النبع الواحد أن يفيض بمياه عذبة ومرّة؟” (يعقوب 3: 8-11). انتبهوا الى السنتكم، فانها للبناء لا للهدم.
7. لا يظنّن أحد ولا سيما الذين في السلطة أو هم من أصحاب النفوذ السياسي، أكانوا برلمانيّين أم وزراء أم رؤساء كتل أو أحزاب، أنّهم بغنى عن ثلاثيّة السماع والتأمّل والنطق. فلو عاشوها لما بلغنا إلى حالة البؤس التي أوصلوا إليها الدولة والشعب وقوانا الحيّة والمؤسّسات.
فالسماع هو لصوت الله عبر كلامه في الكتب المقدّسة، ومن خلال صوته الداخلي بالضمير الأخلاقي والوطني. والتأمّل هو إدخال الصوت الإلهي إلى أعماق النفس والقلب، كما كانت تفعل العذراء مريم أمّ يسوع، إذ “كانت تحفظ الكلمات والأحداث في قلبها وتتأمّل فيها” (لو 2: 19، 51). والتأمّل يقتضي الخروج من الذات ومصالحها وحساباتها الخاصّة، وتوسيع مساحة النظر إلى المصلحة الأشمل، إلى الخير العام، إلى خير الوطن وجميع المواطنين. والنطق هو التعبير الكلاميّ البنّاء، وترجمة كلام الله وصوت الضمير ونتائج التأمّل في الأفعال والمبادرات.
نحن نصلّي لكي يدرك المسؤولون عن مصير الدولة والشعب، أنّهم ملزمون بثلاثيّة السماع والتأمّل والنطق. وهي الطريق الوحيد لخروج كلّ واحد منهم من شرنقة مصالحه وحساباته، وللتلاقي بروح المسؤوليّة الوطنيّة من أجل التباحث في أسباب التعثّر واللاثقة المتبادلة، على أن يتخلّى كلّ فريق عن مشاريعه على حساب لبنان أرضًا وشعبًا ومؤسّسات.
8. إنّ أولى ثمار ” السماع والتأمّل والنطق” هي التوجّه الفوريّ إلى البرلمان وانتخاب رئيس للجمهوريّة عبر دورات متتالية يوميًّا وفقًا لمنطوق المادة 49 من الدستور. إنّ عدم انتخابه وإقفال القصر الجمهوري منذ سنة وشهرين تقريبًا جريمة موصوفة آخذة بهدم المؤسّسات الدستوريّة والإدارات العامّة وانتشار الفوضى والفساد وتشويه وجه لبنان الحضاري. إذا تكلّمنا من باب القانون وروحه وفلسفته منذ الشرع الروماني إلى اليوم، كلامًا منزّهًا عن السياسة ومصالحها الخاصّة، نقرّ بأنّ القوانين تُعلّق بقرار من السلطة المختصّة بسبب الظروف القاهرة منعًا لنتائج قد تكون وخيمة، فنقول: يجب في هذه الحالة عدم المسّ حاليًّا بقيادة الجيش، بل تحصين وحدته وتماسكه، وثقته بقيادته، وثقة الدول به. فالجنوب اللبناني متوتّر، والخوف من امتداد الحرب إلى لبنان يُرجف القلوب، والحاجة إلى الجيش متزايدة لتطبيق القرار 1701، واستقرار الجنوب، ولضبط الفلتان الأمني الداخلي، ولسدّ المعابر غير الشرعيّة بوجه تهريب البشر والسلع والمخدّرات وما سواها.
ونردّد مرّةً ثانية: إذهبوا، أيّها النواب بموجب ضميركم الوطني، إلى مجلسكم وقوموا بواجبكم الأوّل والخطير، وانتخبوا رئيسًا للجمهوريّة وفق المادّة 49 من الدستور، فتستقيم المؤسّسات، ويسلم الوطن، ويتوقّف كلّ جدال وانقسام!