شهورٌ طويلةٌ مَضَت على اندلاعِ الحربِ الأخيرةِ في السُّودان. صراعٌ يدورُ رَحَاهُ، بين جِنرَاليْن وجَيشيْن، ويسقُطُ ضحيَّته الألآف من القتلى الأبرياء.
بعيدًا عن نَظريَّةِ المؤامرةِ، ودونَ الرُّجوعِ الى أضَابيرِ التَّاريخِ، في رسْمِ أسبابِ الحُروبِ، في التَّحاليلِ الصحافيَّة او في المُخيِّلاتِ الشعبيَّة، فإنَّ المشهدَ لا يحتاجُ الى كبيرِ شَرحٍ. الجنرالانِ الَّلذانِ تَحالفا لإسقاطِ نظامَ حُكمِ الرئيسِ السَّابق عُمرالبشيرِ، والَّلذانِ أمعَنا، بالتكافُلِ والتَّضامُنِ، في منعِ انتقالِ السُّلطةِ الى المَدنيِّين، هما يَتَقاتلانِ فيما بينَهُما، على حَجمِ الإستئثارِ في السُّلطةِ، وحُدُودِ احتكارِ النُفوذِ، ومدى استحواذِ كلُّ فريقٍ على مَناجِم الذَّهبِ والمعادنِ الثمينةِ….
أتباعُ الفريقين ، امتهنوا الوحشيَّةَ في هذه الحرب: رؤوسٌ تُقَطَّعُ، نساءٌ تُغتَصبُ، بناتٌ يُسبَيْنَ، مدنيّون يُقتلونَ، عائلاتٌ تُهجَّرُ، والمجاعَةُ تَدُقُّ ابوابَ الكثيرِ من البيوتِ.
كَم هي مُؤلِمَةٌ أهوالُ الحُرُوبِ، خاصَّة عندما تَشعُرُ الضحيةُ أنَّها مَنسيّة،
وكم هي موجِعةٌ رُهبُ المعاركِ، خاصَّة عندما لا يفهمُ الناسُ سَبَبَ إماتَتِهم!
فلا إعلامٌ يُضيءُ على عذاباتِهم، ولاصحافيّون يُصوِّرون معاناتِهم، ولا بثٌّ حيٌّ ينقلُ شناعةَ المُتقاتلين. ولا جامعةٌ عرييَّةٌ نفعَ استنكارُها، ولا أمَمٌ متحدةٌ أجدى شجبُها، ولا مساعداتٌ انسانيَّةٌ أنقصَت مجاعَة. حتى كلمةُ شهيدٍ والتي لها معنىً مُقدَّسًا في الإسلامِ، والتي أدمَنَ الإعلامُ العَربيُّ إلقاءَها على ضحايا غزَّة، بَخُلَ بإسباغِها على الذين يُقتلون في السُّودان!
لم تنفَع وساطاتُ أميركا والسَّعودية، ولا حتى مناشداتُ مصرَ والجامعةِ العربيَّة. النازحونَ الى دولِ الجِوار، وحدَهُم يُخبرون عن حربِ مَنسيَّةٍ، ما زالت رَحاها تدورُ في السودان.
وكأنَّ هذا الشرقُ الأوسط، الرَّهيبُ في حروبِهِ القذرةِ، قد أدمَنَ الاستحمامَ بدَمِ أجيالٍ بريئةٍ: مدارسٌ مقفلةٌ، مستشفياتٌ خارجَ الخدمة، أدويةٌ مفقودةٌ، موادٌ غذائيَّةٌ شحيحةٌ، اقتصادٌ مشلولٌ، العملةُ الوطنيَّةُ منهارةٌ، وأجيالٌ تموتُ في الحربِ وأخرى في قواربِ الموتِ هربًا الى اوروبا، ولم يتبقَّ سوى جيلٌ أمِّيٌّ، ينمو على الحقدِ، فيما هو مَزهوٌّ بثقافةِ العنفِ وقتلِ الآخرِ.
غاصَ السُّودان، هذا البلدُ الذي قيل فيه يومًا، أنَّه يصلُحُ ان يكونَ مُنتِجًا للسَّلةِ الغذائيَّةِ العربيَّة، لما فيه من أرضٍ خِصبَةٍ، مع وَفرٍ من المياه، إضافة الى كَمِّ كبيرٍ من قِطعان الماشيةِ، في بحرِ الفقرِ والبُؤس والعَوَزِ والدَّمِ، ومؤسَّساتُهُ على شفا التَّحَلُّلِ، فيما نُخَبُه الفِكريَّةُ، والتي أغنتِ المكتبةَ العربيَّةَ يومًا، قد خَبَا صوتُها او أُصمِتَت الى الأبد.
وأخالُ سُكَّانَ الخَرطومِ، ينتظرونَ كلَّ يومٍ، غَسَقَ الليلِ، لِيَدِسُّوا مآسيهم في نهرِ النيلِ، آملين، بأنَّه مع بزوغِ كلِّ فجرٍ جديدٍ، قد تكونُ أوجاعُهُم قد أدبرَت، وربما حياةٌ جديدةٌ قد أقبَلَت !!
على أملٍ أن تَعْلُوَ روحُ المسؤوليَّةِ، ويعودُ الجميعُ الى مناضِدِ التَّفاوضِ، لإيقافِ هذه السَّرديَّةِ من العنفِ المُستدام.
المهندس ساسين القصيفي