ما ان بلغني نعي الناعي،حتى تسابق فكري مع يراعي، وغرق في كأس الحزن نخب إبداعي،فهل “أفلفش” الدواوين،لأسكب الكلمات على الصفحات وأضع العناوين!!،ربما استوجب الموضوع مجلدّات،ولا أستطيع أن أفي هذا الكبير حقّه، نعم هذا الكبير من كبارنا الذي من بيننا رحل وهذا العظيم من عظمائنا الذي عن أجوائنا أفل.
ورحل الشاعر والأديب جورج شكّور،الذي سيبقى حيّا بنتاجه الأدبي الوفير،وسأحاول أن أقدّم له إضمامة عبير،تحمل ما تحمل من صدق المشاعر وغلاوةالتعابير ،وتفوح بما تفوح من محبة وتقدير،فأستحضر بعض الخواطر التي طرأت على بالي،ما إن خرق جدار صوت الرحيل خيالي،فأقبلت أستعين ببعض ماغرفته من ثمار كرمه الأدبي الحالي، فها أنذا أُزيّن أسطري بنبض الوفاء،وأُكحّل عين قلمي بلون النقاء،بينما يشيّع شاعرنا الى دار البقاء، هو الذي كلما وقفت في حضرته متكلّما،كلما سافرت على متن عينيه ،قبل أن أستبط من اللسان رأيه، فكأنه يعلّق على صدر مسيرتي من خلال تشجيعه أرفع نيشان،وخاصة في المناسبات التي وقفتها أو كتبتها في أهل وأحبّة من جارتنا شيخان، وكنت أشعر في كل مرّة أنني أمام امتحان وليس فقط أمام سيد من أسياد البلاغة والبيان.
الأديب والشاعر جورج شكور
لبناني في الصميم هو، قطع الدروب من الشمال الى الجنوب، فملأ الدنيا وشغل القلوب. انه ذلك المؤمن الذي لا يميّز بين مسيحي ومسلم، فكما أنشد للسيّدالمسيح فقد كتب للإمام علي، وسار على النهج الصحيح، إنه ذلك المسيحي الذي ما ميّز يوماً بين مذهب وٱخر ، فجورج شكور الأرتوذوكسي وضع نشيدا لصرح بكركي الذي أعطي له مجد لبنان.
وكم نفاخر بالشاعر الجبيلي ابن بلاد الحرف ،الذي راح يلملم الحروف من حقل موهبته الإبداعية، ليزرعها شعراً ونثراً على المنابر أم فوق الدفاتر، ولنحصد نحن من رحابة ثروته الفكرية، أو نغرف المعاني من غلاله الأدبية. أما في المجلس الثقافي في بلاد جبيل ،فكان رمزا من رموزه وركنا من أركانه،وما كان لنا زميلا فحسب، بل كان مرشداً ومرجعاً .
المربّي والمعلّم جورج شكور ،ذلك الرسول الذي أرهق العمر أمام اللوح في صفوف رجال الغد ، ومن غبرة الطبشور أضاء بالعلم عتمة الديجور ،وجعل منه نبراس نور،فأمضى أجمل سنوات حياته في أرقى الصروح التعليميّة وتخرّج على يديه كوكبة من الوجوه النخبويّة. وأكثر ما شدّني ولفت انتباهي أنه لم يتقاعد في سنّ التقاعد،ولم يستسلم في زمن الحرب والأوجاع والدموع، فلم يلعن العتمة بل أضاء الشموع، فافترش ساحة الضيعة علماً وتعليماً وأعاد مجد مدرسة تحت السنديانة جامعاً أولاد الحيّ والضيعة والجوار ليقدّم إليهم باقات العلم هدية في”دغشة” كل عشيّة.




جورج شكور الشيخاني هو الذي أحبّ ضيعته التي ترعرع في كنفها،وسرح ومرح في حقولها، وتعبت من وطأة أقدامه دروبها،”ونشأ على هواها فتاً وفيّا فعزّزه وشرّفه هواها” فنظمها مدائحاّ وقصدانا ،وأنشد في ربوعها الراحة والأمان.
…وبين ضيعتنا وضيعته وصلة موّال وهديل حمام، وزقزقة عصافير ووهج زمن منير،لابل حسن جيرة وصداقات كثيرة ،وحكايات جميلة ومعادن أصيلة.
وبين بيتنا وبيته علاقة قديمة ووجوها كريمة،ولا نقول كما في السياسة ما يجمعنا هو وحدة المصير،لا بل نشوة العبير وغلاوة التعابير. فلنا في شيخان أروع عنوان وله في حصارات في كل قلب مكان.
وكما جمعته الصداقة مع والدي فلقد أعجبته طرافة جدي،وهذا ما أتيت على ذكره في كتابي “وجوه وكلمات”.
” أما الشاعر الكبير والصديق جورج شكور،فما إنفكّ يتذكّر ذلك الإحتفال الخطابي الكبير في نادي حصارات،والذي توالى فيه على الكلام نخبة أدباء وشعراء المنطقة،وصدف أن الشاعر شكّور وحده عرٌج على ذكر المرحوم جدي
“الشيخ جوان” الذي اعتلى المنبر بعفوية،وتوجّه إلى شكور على مسمع من الجميع:ٱه هيك بيحكوا ماحدا عرف حكي كلمه متل الخلق منهم غيرك”..وهذا ماكان يذكرّني به الأستاذ جورج في أيّة مناسبة التقيته فيها وقال يومها في قصيدته:
…وسمعت كثيرا عن رجل
يسخو ويطيب له الكرم
فوقفت هنيه إكبار
وهتفت وأسكرني الشمم
بالبذل تشيّد أوطان
وتعلى بالكرم الشيم
وليسجد أرباب البخلاء
البخل البخل هو العدم.
ويوم قرّرت أن أجمع نتاجي الأول في كتاب رحت أنتقي من بستان الأدباء والشعراء نخبة الأنخاب ،من الأوفياء والأصحاب،وكانت وجهتي الأولى الأستاذ شكور الذي بادرني بالترحاب، ليغدق على منصة توقيعي طبقا شعريا من أطيب الأطياب ،في قصيدة تحت عنوان “والطيبّون هنا” ومنها هذه الأبيات؛
وكتاب عاصي اليوم طاب مطبوعا
لبلاغة لولا الأصالة لا تطيع
ورث الخطابة عن أبيه،ونخوة
عن جده المقدام تعشقه الجموع
يا غانماً صيتاً يشيع وشهرة
سلمت يداك وقلبك الصافي الوديع
هذا كتابك في جوارك مرجع
ولنا إليه في كلّ سانحة رجوع
جورج شكور شكرا: يا من نظمت شعرا يتدثّر بالنداوة ويصقل أوزانه بجوهر الطراوة،ويعطّر معانيه بنكهة الحلاوة، فكلما قرأته كأنك تدخل هيكل الروعة أو تتنّزه في عالم الجمال أو تسرح في دنيا الخيال، فتسكر من خمرة أفكاره وتستريح في هدأة أشعاره.
أستاذ جورج:
ستبقى أنشودة الأجيال، وأغنية على شفاه التاريخ.
فيا سليل قرية المئتي كتاب، يا من زدت على المئتين غمارا من الكتب، ويا ابن شيخان لا ولن يبتلعك النسيان، فستبقى خالدا بأعمالك وبنتاجك على مدى الأزمان.
فلك عرش السماء وللأهل والأصدقاء أسمى ٱيات العزاء.
غانم اسطفان عاصي
حصارات في ٤ أيلول ٢٠٢٤